حديث رمضان_رمضان: شهر التغيير والتطهير

الشيخ ايمن الرفاعي

مفتي بعلبك

شهر رمضان المبارك، شهر القرآن والرحمة، شهر التوبة والغفران، شهرٌ تتجلّى فيه أسمى معاني العبودية، وتتجسد فيه أروع صور التكافل والتراحم. إنه شهرٌ يفتح فيه المسلم صفحة جديدة مع ربه، ومع نفسه، ومع مجتمعه. شهرٌ تتنزل فيه البركات، وتتضاعف فيه الحسنات، وتُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب النيران وتصفّد فيه الشياطين.

  1. حكمة الصيام:

الصيام ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو تطهير للقلب، وتهذيب للنفس، وتقوية للإرادة. إنه تذكير للإنسان بضعفه وعجزه أمام خالقه. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}1 (البقرة: 183).

فالصيام يربي في المسلم التقوى، وهي الخوف من الله في السر والعلن، والامتثال لأوامره، واجتناب نواهيه. والصيام يزكي النفس، ويطهرها من الأخلاق الرذيلة، ويسمو بها إلى مدارج الكمال. وكذلك يقوي الإرادة، ويعين الإنسان على التحكم في شهواته، وكبح جماح نفسه، ومقاومة نزعات الشر.

  1. أخلاقيات الصيام:

الصيام يربي في المسلم مجموعة من الأخلاقيات الفاضلة، منها الصدق، والأمانة، والإخلاص، وصلة الأرحام، والتسامح، والكرم، والجود، والإيثار، والصبر، والشكر، والتواضع، والعفو عن المخطئين في حقّه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ،” (البخاري ومسلم).

ويقول صلى الله عليه وسلم: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، فَلَا يَرْفُثْ ، وَلَا يَجْهَلْ ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ” (البخاري ومسلم).

ويقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ” (البخاري).

فالصائم الحق هو الذي يلتزم بأخلاق الإسلام في جميع جوانب حياته، في أقواله وأفعاله، في معاملاته وعلاقاته، في سره وعلنه.

رمضان هو فرصةٌ للتغيير والتطوير، فرصةٌ للتوبة والاستغفار، فرصةٌ للمحاسبة والمراجعة، فرصةٌ للتخطيط والعمل، فرصةٌ للتقرب إلى الله، فرصةٌ للفوز بالجنة، والنجاة من النار.

  1. عبادات الصيام:

الصيام يشمل عباداتٍ جسدية، مثل الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، وعباداتٍ روحية، مثل قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، والخشوع، والتضرع، وعباداتٍ قلبية، مثل الخوف من الله، ورجاء رحمته، ومحبته، والشوق إليه، والإخلاص له، والتوكل عليه، والتسليم بقضائه، والرضا بقدره.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ” (البخاري ومسلم).

ويقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” (البخاري ومسلم).

ويقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَ” (البخاري ومسلم).

  1. رمضان والقرآن: قصةُ حبٍّ لا تنتهي بين شهرِ الرحمة وكتابِ الهداية:

في شهر رمضان، تتجلى علاقة خاصة تربط القرآن الكريم بهذا الشهر الفضيل، فهو شهر نزول القرآن الكريم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يراجع القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان من كل عام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ “. (البخاري ومسلم)

وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على قراءة القرآن في رمضان وغيره، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ”.. (الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح).

وقد كان السلف الصالح -رضي الله عنهم- يحرصون على قراءة القرآن في رمضان، وكانوا يختمون القرآن في رمضان عدّة مرات، وكانوا يجتهدون في تلاوته وتدبره، وكانوا يقولون: “إنما هو شهر القرآن”.

فعلى المسلم أن يحرص على اغتنام هذا الشهر الفضيل، وأن يكثر من قراءة القرآن وتدبره، وأن يعمل بما فيه، حتى يكون له حجّة يوم القيامة.

  1. خاتمة:

في العصر الحديث، تظهر أهمية الصيام في تعزيز الوعي الاجتماعي، والتأكيد على المسؤولية المشتركة، وتنمية الشعور بالتكافل والتراحم، وتحقيق العدالة والمساواة، ومحاربة الفقر والجوع، ونشرالمحبّة، وبناء المجتمع القوي المتماسك.

يجب على التجار أن يتجنبوا الاحتكار، ورفع الأسعار، وأن يتعاملوا برفقٍ وإنسانية مع المستهلكين، وأن يراعوا أحوال الناس، وظروفهم المعيشية. يجب عليهم أن يتذكروا أن الربح الحقيقي هو الربح الحلال.

على المسؤولين أن يتابعوا أحوال الناس، وأن يسعوا جاهدين لتلبية احتياجاتهم، وتخفيف معاناتهم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم، مثل التعليم والصحة والسكن والغذاء. يجب عليهم أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع، وأن يتحلوا بالأخلاق الفاضلة، وأن يعملوا بإخلاص وأمانة، وأن يحرصوا على مصلحة الوطن والمواطنين. وعلى أصحاب الأموال أن ينفقوا بسخاءٍ في وجوه الخير، وأن يتصدقوا على الفقراء والمساكين، وأن يساعدوا المحتاجين، وأن يساهموا في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات، وأن يدعموا المشاريع الخيرية التي تخدم المجتمع. يجب عليهم أن يتذكروا أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وأنهم مسؤولون عنه، وأنهم سيحاسبون عليه يوم القيامة.

وخلاصة الأمر: أنّ رمضان هو شهرٌ يجمع بين العبادة والعمل، وبين الروحانية والمادية، وبين الفردية والجماعية. إنه شهرٌ يجدد فيه المسلم إيمانه، ويقوي عزيمته، ويصلح علاقته بربه، وبنفسه، وبمجتمعه، وبأمته، وبالإنسانية جمعاء.

الشيخ ايمن الرفاعي