حديث رمضان_رمضان الضَّيفُ الخَفيْف.. فاغتنموه

الشيخ بلال محمد المُلاّ

وصف الله تعالى شهر رمضان المبارك بقوله: {أيَّاماً معْدوداتْ} (سورة البقرة- الآية: 184)، والمراد بها بإجماع جمهور المفسرين هو شهر رمضان، قال ابن عاشور: “عبّر الله تعالى عن رمضان بـ {أيام}، وهي جمع قِلّة، ووَصَفَ بـ{معدودات} وهي جمع قِلّة أيضاً، تهويناً لمشقة الصيام على المكلّفين، و(المعدودات) كناية عن القلة، لأن الشيء القليل يُعدُّ عدًّا، ولذلك يقولون: الكثير لا يُعَدُّ”، ولكأنّ الله تعالى اللطيف بعباده يقول: هو شهر، لكنه خفيف.. ولطيف.. وكريم .. وسريع.. وستشعرون به وكأنه أيام قليلة معدودة.. وهذ المعنى هو ما نشهده ونلمسه جميعاً فعلاً في رمضان، وهو ما تعبّر عنه عامة الناس في قولهم “إذا عشّر أشّر”، إشارة إلى سرعته والدعوة إلى اغتنامه، ولا يستحسن القول: “إذا عشّر بشّر”، لأن رحيل الخير لا يكون بشارة، ورمضان كله خير.

وهناك تفسير ثان لقوله تعالى {أيَّاماً معْدوداتْ}، هو أن المقصود به أنها أيامٌ تُعَدّ، وهذا أيضاً ما نعيشه مع رمضان، بحيث أن الناس يعدون أيامه باليوم وبالساعة لا بل باللحظات، كما هو الحال قبيل الافطار أو السحور، فلو سألت أحداً عن أي يوم نحن الآن في رمضان؟، لأجابك بأنه يوم كذا، وبذلك يكاد يكون رمضان هو الشهر الوحيد في العام الذي تُعَدّ أيامه ولياليه ولحظاته يومياً.

وهناك تفسير ثالث لهذه الآية الكريمة، مفاده أن الأشهر أو حتى السنوات الجميلة والسعيدة التي تحمل ذكريات طيبة، يقال عنها “تلك الأيام” كأيام الطفولة أو الدراسة أو الجيرة الطيبة، مع أنها أشهر وسنوات، وهذا المعنى ينطبق على شهر رمضان بأن أيامه جميلة وطيبة خالية مليئة بالطاعات وبالرحمة والتواصل والتسامح والتزاور والتعاون والإنفاق وكل أعمال البر، وبالبعد عن كل محرم وشائن.

لذلك أي معنى كان هو المقصود، فإن الغاية من الصيام هي الاستفادة المادية والمعنوية أو البدنية والورحية من مقاصد الشرع الحنيف الحكيم من فوائد الصيام على الجسم وعلى الروح وعلى المجتمع، وهي بذلك دعوة عاجلة ومفتوحة للاستفادة القصوى من بركات هذه الشهر العظيم، الذي يمر خطفاً، حتى لا يضيّع المسلم أي لحظة من لحظاته، ويغتنم كل بركاته وخيراته تجاه ربه وإرضائه وتقواه عز وجل، وتجاه نفسه لتهذيبها بالأخلاق النبيلة الراقية السامية، وتجاه بدنه بتنحيله وتنحيفه، وتجاه أهله ومجتمعه مع ما فيه من البر والتراحم..

ولاغتنام هذه المكرمة الربانية بمقاصدها الحميدة، لا بدّ من تحققها بتحقيق أعلى مراتب الصوم، فللصوم ثلاث مراتب، تتفاوت بتفاوت التزام المسلم بمعانيها ومقاصدها التي تحقق الغاية الروحية والجسدية منه، وهي حقيقة التقوى التي جعلها الله تعالى الهدف الأساس للصوم في قوله عز وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(سورة البقرة – الآية: 183)، فعلى المسلم أن يسعى جاهداً لكي يحقق كل مقاصد الصوم بكل معانيها المادية والمعنوية السامية.

ولقد حدّد الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله هذه المراتب بقوله: “اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، صَوْمُ الْعُمُومِ، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، أما صَوْمُ الْعُمُومِ: فَهُوَ مجرد كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة، وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ: فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ، وأما صوم خصوص الخصوص (وهذه المرتبة هي التي تحقق كل كقاصد الصيام) فهي: فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية”. انتهى من “إحياء علوم الدين” (1/ 234) .

عندما نتدبّر المقصود في قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يتجلى ذلك فيما رواه أبو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”. رواه البخاري (6057).

وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظّه من قيامه السهر”. رواه أحمد (8856).

وفي هذا المعنى يقول الفاروق عمر رضي الله عنه:  ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه صيام من الكذب، والباطل، واللغو، والحلف”. مصنف ابن أبي شيبة (8882).

يلاحظ في  المرتبة الأولى أن الصوم -صيام العموم- هو صوم مادي محض، لذلك هو منقوص، لأن صاحبه لم يترك الامتناع عن موبقات الجوارح، وهذا هو أهون الصوم، كما قال ابن رجب رحمه الله من السلف الصالح: “أهون الصيام: ترك الشراب والطعام”.

بينما في المرتبة الثانية  -صيام الخصوص- فقد صامت جوارحهم بامتناعها عن المحرمات، وحققوا بذلك حقيقة الصيام وجوهره.

لكن المطلوب تحقيقه من الصيام، هو صيام خصوص الخصوص، الذي يصومون عن الطعام والشراب والشهوة، وتصوم جوارحهم أيضاً كالسمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، ثم فوق ذلك كله، تصوم قلوبهم وعقولهم ونواياهم عن مجرّد التفكير بالحرام وتخيّله وتصوّره في الذهن، ومواعدة النفس وتمنينها به بعد الإفطار، وهذه المرتبة هي المطلوب تحقّقها خلال الشهر الكريم، ليستحق الصائم وعد الله تعالى له بقوله في الحديث القدسي: “كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومَ ، فإنه لي وأنا أجزي به”. القرطبي المفسر (3/123).

الشيخ بلال محمد المُلاّ