حديث رمضان _ السعادة تتجلى في رمضان

الشيخ د. زياد الصاحب

عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى

رئيس جمعية الفتوّة الإسلامية

رمضان شهر ملؤه السعادة، وإن أرقى أنواع السعادة، هي السعادة الروحية، حيثُ يشعرُ بها الصائم طوال شهر الرحمة والعبادة، حيث يتمتع قلبُه بالطمأنينة، التي تأتي من ذكر الله في القلب، يقول سبحانه وتعالى (وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكرِ الله تطمئن القلوب)نعم هذه هي السعادة القلبية، التي تنعكسُ أيضاً في نفس المؤمن الصائم إلى سعادة نفسية، يفتقدها كثير من الناس اليوم، حيث تنتشرُ المشاكلُ النفسية، ونرى عند الكثيرين توتر الأعصاب، ومنهم من يداومُ على المهدئات وذلك نتيجةَ الضغطِ الشديد، الناجم عن الظروفِ الحياتية الحالية الصعبة، وأوضاع البلد المقلقة، بينما المؤمن الصائم يعيش في أجواء الراحة النفسية والسعادة الروحية التي لا توصف، بل تُذاق ذوقاً، وقد قال أحباب الله) من ذاق عرف ومن عرف غرف ومن غرف اتصف ومن اتصف نال الشرف…(نعم هذه الراحة وهذا الهناء هما حتماً نتيجةْ التربية الإيمانية الرمضانية العظيمة، ولذلك قال الصادقُ الصدوق، الحبيبُ الطبيب صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ من كنَّ فِيه وجدَ حلاوةَ الايمان، أن يكون اُلله ورسولُه أحبَ إليه مما سواهما، أن يحبَ المرء لا يحبُه إلا لله، أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار.”

وإن هذه السعادة الروحية والراحة النفسية تتجلى أيضاً في صفاء القلب وعدم الحسد والحقد ومحبة الخير للناس، وهذه القيم الانسانية النبيلة يحصّلها المؤمن الصائم في رمضان.

وهناك حادثة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تبيّن هذه المعاني والقيم، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يطلُع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فطلعَ رجل من الانصار تنطفُ لحيته ماءً من وضوئه، معلّق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يطلع عليكم الان رجل من اهل الجنة، فطلعَ ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن رجل من اهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبِعَه عبدُ الله بن عمرو بن العاص، فقال إني لا حيت أبي فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني اليك حتى تحلّ يميني فعلتَ، فقال نعم، قال انس: فكان عبدُ الله بن عمرو يحدّث أنه بات معه ليلة او ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل بشيء، غير أنه إذا إنقلب على فراشه ذكر الله وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغَ الوضوء، قال عبد الله غير أني لا أسمعه يقول إلّا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال، كدتُ أحتقر عمله، قلت يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس يطلع عليكم الان رجل من أهل الجنة، فطلعت انت، تلك الثلاث مرات، فأردت آوي إليك فأنظر عملك فلم أرَك تعملُ كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ما هو إلا ما رأيت، فإنصرفت عنه فلما ولّيت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجدُ في نفسي غِلًا لأحد من المسلمين، ولا أحسدهُ على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله بن عمرو هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق.

هكذا يدخلُ الصائمُ المؤمن مدرسةَ رمضان السنوية، ليتعلم فيها دروساً إنسانية راقية، يتعلم درساً في الرضى، الرضى عن الله، والرضى بقضاء الله، هذا الرضى هو قمةُ الهدوء النفسي والشعور بالسعادة.

صدق اُلله تعالى حيث قال سبحانه في سورة البينة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه).

ويتعلم الصائم درساً في الصبر، والصبر ثوابه الجنة، قال تعالى : (إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”. وهناك البشارة من الباري تعالى للصابرين، قال سبحانه: “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتْهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). نعم الصبرُ مفتاحُ الفرج والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن النصر مع الصبر” ويقول الرسولُ ايضاً صلى الله عليه وسلم: “خمسٌ من الايمان، الرضى بقضاء الله والتوكلُ على الله، والتسليمُ لأمر الله، والتفويضُ لله، والصبرُ عند الصدمة الأولى”. ولا ننسى أن رمضان شهر المواساة، مواساة الفقراء والايتام والارامل والمحتاجين، فتجليات الفرح والبهجة واضحة عند هؤلاء، فيتحولون من الشعور بالبؤس الى مشاعر السرور. سبحان الله حتى الانتصارات أيضاً حصلت في رمضان، فهو شهر النصر، فإننا نعلم أن غزوة بدر وهي الغزوة الكبرى، الحاسمة والفاصلة، والمصيرية، التي تقرر فيها مصير الايمان والكفر، حصلت في رمضان، وأن فتح مكة، وهو الفتح المبين حصل في رمضان، ومعركة عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون على المغول والتتار عندما اكتسحوا العالم الاسلامي حصلت في رمضان، ومعركة حطين وفيها النصر على الصليبين، بقيادة صلاح الدين، حصلت في رمضان. إلى ان إنتصار العرب في العصر الحديث على الصهاينة في حرب تشرين كان في رمضان، اي بركة، بل بركات فيك يا رمضان، هنيئاً للمسلمين بهذا الشهر العظيم الميمون، وهكذا يتنقل الصائم والصائمة في رمضان من طمأنينة القلب، إلى راحة النفس وهدوء البال، فإلى الحب والرضى، وإلى الصبر والمواساة، وأخيراً ولا آخراً إلى النصر، النصر في المعركة.

والنصر الأكبر في الجهاد الاكبر جهاد النفس والهوى، وكل هذه المعاني تتجلى فيها السعادة في رمضان.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

والحمد لله رب العالمين

الشيخ د. زياد الصاحب