بقلم محمد السماك
في كتابه «مسالك النفط»، الصادر عام 2022، يروي المؤلف «كيث فيشر» قصة العملية الأولى لاستخراج النفط. كان ذلك في خليج المكسيك في عام 1908. في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة والمكسيك في حالة عداء شديد. وكانت الحكومة المكسيكية تبحث عن منقّب للنفط لا يمتّ بصلة إلى جارتها الطامعة في أراضيها وفي مياهها. وجدت المكسيك ضالتَها المنشودة في شركة بريطانية، فمنحتها امتياز التنقيب لمدة نصف قرن. وشمل الامتياز كامل ولاية «فيراكروز» براً وبحراً.
قامت الشركة بحفر البئر الأولى في البحر (دوس بوتاس). وصل الحفر إلى عمق 558 متراً. وفجأة انفجرت البئر وانطلقت منه نافورة نفطية نارية بلغ ارتفاعها حوالي 300 متر.
استمرت النافورة في إطلاق النفط الخام مدة 57 يوماً، تدفّق خلالها أكثر من عشرة ملايين برميل، الأمر الذي أدى إلى تلوث بيئي في البرّ والبحر على نطاق واسع. وما تزال بقايا آثاره واضحة حتى اليوم.
وصف أحد المهندسين صورة المنطقة بعد ذلك فقال: «كل شيء أصبح ميتاً، الحيوان والشجر. الرائحة الكريهة في كل مكان وكأنها رائحة البيض العفن. لا صوت لحيوان أو طير أو حشرة.. إنه العدم». غير أن الآبار التي فُتحت بعد تلك الكارثة البيئية تدفق منها الخير الوفير، وأصبحت المنطقة تُعرف بـ«البوابة الذهبية للمكسيك».
بدأ الاهتمام بالنفط يتزايد خلال الحرب العالمية الأولى، عندما استخدمت السفنُ الحربية البريطانية النفط وقوداً لها. ورغم أن البريطانيين كانوا يسيطرون تماماً على إنتاج النفط الإيراني، فقد أوعزوا إلى علماء الجيولوجيا بالبحث عن مصادر جديدة في الشرق الأوسط.
كذلك استخدمت الولايات المتحدة كميات كبيرة من النفط لتشغيل آلتها العسكرية، مما أثار قلقاً حول قدرة الإنتاج المحلي على تلبية حاجات الاستهلاك الداخلي المتزايد. ولذلك دعا مجلس الشيوخ الأميركي، في عامي 1919 و1920، وزارةَ الخارجية إلى «العمل من أجل إزالة كل القيود التي تفرضها الحكومات الأجنبية على التنقيب عن النفط».
وفي 15 ديسمبر 1917، ناشد الرئيس الفرنسي كليمنصو نظيرَه الأميركي ويلسون أن يستعمل سلطاتِه ليفرض على محتكري النفط الأميركيين إرسال النفط إلى الدول الحليفة في أوروبا. وقال: «إذا كان الحلفاء لا يريدون الهزيمة، فعليهم أن يؤمّنوا بصورة حتمية الكميات الكافية من النفط للقوات الفرنسية في معركتها الأخيرة، لأن كل قطرة من النفط تعادل قطرة من دم أي جندي».
وفي 6 مارس 1919 وقّع كل من هنري بيرانجه (مستشار اللجنة الفرنسية العامة للنفط) ووالتر لانغ (وزير المستعمرات والنفط البريطاني) اتفاقاً ينص على أنه: «رغبة في تسهيل تموين مستقر ومطرد بالمواد النفطية بين سائر بلاد العالم، ولمنفعتها كلها، صناعياً وتجارياً، وهي المواد التي ثبت سوء توزيعها النسبي بين الدول، ورغبةً في تدعيم علاقات الصداقة وفي تنمية الرخاء بين الأمم.. تنوي الحكومتان الفرنسية والبريطانية تمديد فترة التعاون التي أعطت أثناء الحرب ثمرات إيجابية. وقد تم الاتفاق بينهما على القاعدة التالية: المثابرة على نهج سياسة مشتركة في الشرق الأدنى وفي البلاد المجاورة للبحر الأبيض المتوسط من أجل استغلال مختلف الحقول النفطية».
وسرعان ما تحول النفط إلى شريان حياة لاقتصاديات دول العالم مجتمعةً، بعد أن كان العمود الفقري لحروبها وصراعاتها.
سبق ذلك انفجار الصراع التنافسي بين الشركات الأميركية والبريطانية حول امتيازات التنقيب عن النفط في العراق ومناطق ما بين النهرين.. إذ أن الشركات البريطانية والفرنسية تقاسمت الامتيازات، استكمالاً لتفاهم لندن وباريس على تقاسم الإمبراطورية العثمانية. ولذا فقد احتج الأميركيون بشدة وبرّروا احتجاجهم بأن «الحلفاء (الفرنسيين والإنجليز) مدينون بانتصارهم في الحرب العالمية الأولى لمشاركة الولايات المتحدة في الحرب دعماً لهما، وإنه لا بد من مكافأتها على ذلك».
حصلت الولايات المتحدة على المكافأة، وتمكّنت بعد ذلك من التوسع والتمدّد حتى أنها تمكّنت في عام 1939 من الحصول على 15 بالمائة من إنتاج الشرق الأوسط من النفط، ثم توسّع نفوذها إلى أن امتلكت معظم الامتيازات الفرنسية ثم الإنجليزية. فالنفط لم يُعِد صياغةَ العالم العربي الجديد فقط، ولكنه صاغ أيضاً العلاقات الجديدة بين حلفاء شاطئ الأطلسي، أي الولايات المتحدة من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية. ومن أجل ذلك فإن التاريخ الحديث مكتوب بحبر النفط.
محمد السماك