بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
تصدّعَ الجسر الأطلسيّ بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، ويبدو أنّه انهار، أو على وشك الانهيار التامّ في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. عبر هذا الجسر خاضت الولايات المتحدة حربين عالميّتين إلى جانب أوروبا. وتجسّدت وحدة الدم الأميركي – الأوروبي في معركة النورماندي. الآن تعكس معركة أوكرانيا حجم التصدّع وخطورته.
في معركة النورماندي وحدها التي حسمت الحرب العالمية الثانية لمصلحة الحلفاء (أوروبا وأميركا) قُتل تسعة آلاف جندي في اليوم الأوّل فقط، وتحوّل لون شاطئ البحر إلى الأحمر. فقد اشترك في القتال ضدّ النازية جنود من 13 دولة أوروبية إلى جانب الجنود الأميركيين. واستُخدمت سبعة آلاف سفينة حربية، ونفّذت الطائرات العسكرية نحو 14 ألف طلعة هجومية، وأنزلت 18 ألف جندي وراء الخطوط الألمانية. جسّد ذلك وحدة الدم ووحدة المصير الأميركي – الأوروبي.
أثناء الحرب العالمية الثانية كان الهمّ الأوّل لبريطانيا هو إقناع الولايات المتحدة واستدراجها لدخول الحرب ضدّ ألمانيا النازيّة. إلا أنّ الرئيس الأميركي في ذلك الوقت فرانكلين روزفلت كان متردّداً، وكان يفضّل عدم التورّط. لعبت المخابرات البريطانية دوراً أساسيّاً في حمله على تغيير موقفه. فقد تمكّن عميل استخبارات بريطاني يُدعى وليم ستيفنسون من استخدام كاتب سيناريوهات للأفلام السينمائية يُدعى إريك ماسويتش لكتابة نصّ (سيناريو) حول تفاصيل مخطّط نازيّ للسيطرة على أميركا الجنوبية.
وقع الرئيس الأميركي في الفخ ودخل الحرب وهو كاره لها، وكان هذا الدخول عاملاً أساسيّاً وحاسماً في رجحان كفّة الغرب ضدّ ألمانيا النازية. أمّا كاتب السيناريو المزوّر ماسويتش فقد كوفئ فيما بعد بتعيينه مديراً لقسم المنوّعات في تلفزيون “بي. بي. سي”.
تبدّل الصّورة مع ترامب
أمّا اليوم في معركة أوكرانيا، فإنّ الصورة تبدو مختلفة تماماً، وتزداد اختلافاً مع تبوُّؤ الرئيس ترامب سدّة الرئاسة. وتشير وقائع اللقاء الذي جرى في البيت الأبيض بينه وبين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلى حجم التباعد والتراجع. وهو ما كرّسته القمّة الأوروبية التضامنيّة مع أوكرانيا التي عُقدت كردّ فعل أوروبي على الموقف الأميركي الجديد.
إلى قضية أوكرانيا، تأتي السياسة الاقتصادية الجديدة التي اعتمدها الرئيس ترامب والتي تقضي بفرض ضرائب جمركية مرتفعة على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، لتصبّ الزيت على نار الاختلافات الجديدة.
من هنا ترتسم علامة استفهام كبيرة عن موقف الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي، ومن مصير الحلف ومستقبله. فماذا يعني الحلف من دون الولايات المتحدة؟ حاولت أوروبا في السابق الاستقلال العسكري عن واشنطن. جرى ذلك بمبادرة من الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول، إلّا أنّ الولايات المتحدة فشّلت تلك المحاولة وتمكّنت من إبقاء المجموعة الأوروبية تحت مظلّة الأمن الأميركي. وبذلك أخضعتها للمتطلّبات الأمنيّة لعلاقاتها الخارجية، وخاصة مع الاتحاد السوفيتي ثمّ وريثته روسيا.
كانت العلاقات الأميركية – الروسيّة سيّئة في عهد الرئيس بايدن فوجدت أوكرانيا في ذلك فرصةً مناسبةً للانشقاق عن روسيا وإعلان الاستقلال الذاتي، ودعمت الولايات المتحدة هذه الحركة عسكرياً وسياسياً.
أمّا الآن في عهد ترامب فإنّ العلاقات الأميركية – الروسية بدأت تستعيد مظاهرها الإيجابية. تعزّز ذلك العلاقات الشخصية بين الرئيسين ترامب وفلاديمير بوتين التي تتّسم بالودّ والمصالح المشتركة، وهي المشاعر التي كانت غائبة طوال عهد بايدن، وامتدّت إلى أوروبا من الشمال الإسكندينافيّ (انضمام السويد والنرويج إلى الحلف الأطلسي) إلى الجنوب الأوروبي حيث يشتدّ الخناق على حلفاء روسيا في دول البلقان (صربيا بصورة خاصّة).
من الواضح الآن أنّ الرئيس ترامب يريد أن يحوّل الحلف الأطلسي من نظام تحالف سياسي – عسكري مع أوروبا إلى نظام تبعية سياسية تكريساً لشعاره “اجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى”. ومن الواضح أنّ الدول الأوروبية ليست مستعدّة لإحناء الرأس والخضوع لإملاءات شعور العظمة لدى الرئيس ترامب. ومن شأن ذلك أن يفتح ثغرة في جدار السياسة الدولية يمكن من خلالها أن تجد الدول الأخرى متنفّساً لها.
أين العالم العربيّ؟
من هنا السؤال: أين يقف العالم العربي من تحوّل الولايات المتحدة من قائد لحلف شمال الأطلسي إلى متخلٍّ عنه؟ ومن تحالف صلب مع أوروبا إلى منافس متعالٍ؟ فالتخلّي الأميركي يفرض تحوّلات عميقة في التوجّهات الأوروبية. وقد تبلغ هذه التحوّلات حدّ الخصومة السياسية، وهو ما يوفّر فرصة نادرة لاستثمار الوضع الجديد للدفاع عن القضايا والمصالح العربية.
قد يحمل هذا التخلّي الولايات المتحدة على تعزيز تحالفاتها السياسية وتعاونها العسكري مع دول أخرى. ولا شكّ في أنّ إسرائيل تطرح نفسها لتكون في مقدَّم هذه الدول… وقد كانت ولم تزل تتبوّأ مقدَّم اهتمامات البيت الأبيض، سواء كان الرئيس من الحزب الديمقراطي، أي بايدن، أو الجمهوري، أي ترامب.
إنّ ليّ الذراع الأوروبي عبر الحرب في أوكرانيا والموقف الأميركي الجديد من روسيا والتسوية السياسية لهذه الحرب مباشرة بين موسكو بوتين وواشنطن ترامب ومن وراء ظهر المجموعة الأوروبية، يفتح صفحة جديدة في سجلّ العلاقات الدولية ويوسّع ثغرات تشكّل فرصاً لاختراقات سياسية في إطار لعبة الأمم.
محمد السماك