بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
انتهت الحرب الطويلة في سوريا بخاسر كبير هو إيران، وبرابحين اثنين هما تركيا أوّلاً وإسرائيل ثانياً. وإذا كان الصراع على النفوذ الإقليمي بلغ ذروته بين إسرائيل وإيران، وأخذ منحى تصاعديّاً يشوبه التوتّر بين الدولة العبرية ووريثة الدولة العثمانية، فماذا عن مستقبل العلاقة بين أنقرة وطهران بعد اتّساع شقّة الخلاف والتنافس الصامت والتباعد المطّرد بينهما؟
أثناء الحرب السورية، دعمت كلّ من إيران وتركيا مسارين متعارضين للتعامل مع الأزمة. دعمت طهران نظام البعث وساندت أنقرة معارضيه. ومع ذلك حافظت كلتاهما على توازن دقيق بينهما على قاعدة “التنافس التعاوني”، وعملتا معاً ضمن مسار آستانا، وأبقتا قنوات التواصل الأمنيّ والاستخباري مفتوحة بينهما لتفادي أيّ تعكير لصفو العلاقات الدبلوماسية بين الجارين اللدودين، إلى أن حسمت أنقرة الجولة لمصلحتها.
إسقاط نظام آل الأسد بغطاء تركي لا لبس فيه أخرج سوريا من الفلك الإيراني وهزّ معادلة التوازن الدقيق التي حرص نظام المرشد علي خامنئي وحكومة رجب طيب إردوغان على استقرارها، واضعاً العلاقات الثنائية بين الطرفين على خطّ التوتّر العالي.
ضربات تركيّة متلاحقة لإيران
جاءت الضربة السورية القاتلة في وقت لم تستوعب إيران بعد تداعيات الهزيمة الكبيرة التي مُنيت بها في القوقاز، بعدما استطاعت القوات الآذريّة بدعم من أنقرة عام 2020 إلحاق الهزيمة بحليفتها أرمينيا، واستعادة السيطرة الكاملة على إقليم ناغورني قره باغ عام 2023. هذا الانتصار بنكهة تركيّة منح أنقرة ميزات استراتيجيّة في القوقاز، ومهّد لربط الأراضي التركيّة من خلال إقليم نخجوان ببحر قزوين عبر ممرّ زنغزور الاستراتيجي، معيداً ترتيب الأوضاع في جنوب القوقاز على حساب النفوذ التقليدي لإيران. من شأن هذا الممرّ أن يقطع التواصل البرّي الإيراني مع أرمينيا ودول الاتّحاد الاقتصادي الأوراسيّ، فيقلّل من اعتمادها على طهران في مجال الطاقة والنقل. وتنظر إيران للممرّ باعتباره تهديداً لحدودها الشمالية الغربية يعزّز النفوذ التركي ونفوذ حلف شمال الأطلسي في حديقتها الخلفيّة.
هذا ما حشر طهران في زاوية صعبة وجعلها تتحسّب لسيناريو “تساقط أحجار الدومينو”، بدءاً من القوقاز إلى سوريا ثمّ العراق، وأخيراً في الداخل الإيراني نفسه. وزاد الطين الإيراني بلّة مع تحسّن علاقات أنقرة مع الدول العربية، وعودة الحرارة إلى العلاقات الأميركية التركية بعد الانتخاب الثاني لدونالد ترامب، وإحياء المحادثات في شأن بيع أنقرة مقاتلات “إف 16″ و”إف 35″، و”قبّة الباط” الأميركية لتمرير الاتّفاق بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مظلوم عبدي.
على الرغم من مطبّات هذا الاتّفاق الكثيرة، يمكن نظريّاً إذا ما نفِّذ أن يُفقد إيران حليفاً محتملاً يُوازن الوجود التركي، ويضيّق مساحات المناورة أمام طهران داخل سوريا. وكانت طهران سعت إلى فتح خطوط مع وحدات حماية الشعب الكردية وعرضت تقديم الدعم العسكري لها، وإرسال مقاتلين إلى سوريا للانضمام إلى صفوف الأكراد. وأفادت صحف تركيّة عن إرسال طهران 1,500 مُسيّرة من طراز “شاهد – 136” إلى عناصر حزب العمّال الكردستاني خلال كانون الأوّل الماضي.
اللّعب بالورقة الآذريّة
تخشى طهران من الانعكاسات المحلّية للتحوّلات في الجغرافيا السياسية الإقليمية، لا سيَّما في ما يتعلّق بتنامي المشاعر القومية التركيّة وتأجيج المشاعر الانفصالية بين الأقلّية الآذريّة من أصول تركيّة الوازنة في إيران التي تراوح أعدادها بين 25 و30 مليون نسمة وتعاني التهميش الاجتماعي والتمييز. والأرجح أنّ وزير الخارجية التركي حقّان فيدان كان يقصد الآذريين عندما هدّد بدعم جماعات انفصالية داخل إيران ردّاً على السياسات الإيرانية المرتكزة على دعم الميليشيات في الدول الإقليمية. بالفعل تقدّم أنقرة تدريباً ودعماً متزايداً للناشطين والصحافيين الآذريين الأتراك في أذربيجان الغربية من خلال القنصلية التركية في مدينة أرومية. وأطلقت قناة التلفزيون الحكومية التركية (TRT) خدمة بثّ باللغة الفارسية في كانون الأوّل 2024، الأمر الذي ردّت عليه هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية (IRIB) بإعلان بثّ قناة “Press TV” باللغة التركيّة في 21 كانون الثاني 2025.
في المقابل، أعلن جهاز الاستخبارات التركي “ميت” القبض على خليّة إيرانية تعمل لمصلحة الحرس الثوري واتّهمها بالتجسّس وجمع معلومات عن قواعد عسكرية ومناطق حسّاسة داخل تركيا وخارجها، ونقلها إلى مشغّليها في استخبارات الحرس الثوري الإيراني.
جاء الإعلان غداة الأحداث الأخيرة في الساحل السوري، ومحاولة بعض المعارضة التركية اللعب على هذا الوتر لكسب تأييد العلويّين الأتراك.
إلى ذلك تتّهم أوساط تركيّة الأجهزة الأمنيّة الإيرانية بمحاولة نقل المواجهة إلى الداخل التركي بسبب انزعاج طهران من التحوّلات في السياسة التركية، ومحاولات أنقرة التضييق، ليس فقط على النفوذ الإقليمي الإيراني، بل أيضاً على المصالح التجارية والاقتصادية الكبرى لإيران، لا سيما ما يتعلّق بخطوط النقل وإمدادات الطاقة وحركة البضائع. وتعتبر طهران أنّ سياسة تركيا الجديدة في ملفّات الطاقة عبر مناطق البحر الأسود وشرق المتوسّط والقوقاز تتجاهل النفوذ والمصالح الإيرانية الاستراتيجيّة على أكثر من خطّ في تلك المناطق، بينها قطع الطريق على حلم الوصول إلى البحر المتوسط. ولا تزال تركيا تسعى إلى إحياء خطّ الغاز القطري، على الرغم من التحدّيات اللوجستية والأمنيّة التي تواجهه، لا سيما أنّه يمرّ عبر المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد حاليّاً في شمال سوريا وشرقها، الأمر الذي يهدّد صادرات الغاز الإيرانية إلى تركيا وأوروبا.
استحضار الماضي
استحضرت تطوّرات متسارعة تاريخاً من الصراع المرير بين العثمانيين والصفويين توقّف بتوقيع معاهدة “قصر شيرين” عام 1639، التي أنهت حروباً دامت زهاء قرن ونصف قرن ورسمت حدود إيران الحالية مع كلّ من تركيا والعراق. وأنعشت هذه التطوّرات طموحات إقليمية لتركيا قد لا يعيقها سوى مشكلاتها الداخلية إذا ما تفاقمت، وهي ستواصل مساعيها لتحقيق أهدافها الكبرى، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في آسيا الوسطى وإفريقيا أيضاً، لكنّها ستحافظ على حذرها ولن تنجرّ إلى تصعيد أو مواجهة عسكرية، لا سيما مع طهران.
على الرغم من التنافس الجيوسياسي الحادّ وارتفاع حدّة التلاسن والتطويق والتطويق المضادّ، لا يزال “تعاون الضرورة” والمصالح المشتركة تحكم العلاقة بين الجارين اللدودين. عدا عن الحجم الكبير للتبادل التجاري والاقتصادي والطاقوي بينهما، هما مرغمتان على اتّباع سياسة متوازنة، ذلك أنّ إيران التي تواجه اليوم أشرس حملة أميركية وإسرائيلية ضدّها، في ظلّ انشغال شركائها الصينيين والروس بقضايا حيوية تمسّ أمنهم الاستراتيجي، لا خيار أمامها سوى فكّ اشتباكها مع جيرانها، لا سيما مع تركيا التي تمثّل متنفّساً حيويّاً لها لا بدّ منه في حال المواجهة الكبرى. وإذا كانت أنقرة لا ترغب في رؤية إيران دولة نووية وندّاً إقليمياً قويّاً لها، لكنّها أيضاً لا تحبّذ ضرب إيران وزعزعة استقرار المنطقة وتهديد أمنها، فكما ساندت إيران في الالتفاف على العقوبات الغربية للحفاظ على استقرارها الداخلي، تفضّل مساراً دبلوماسياً للتوصّل إلى اتّفاق نووي جديد يمنع نشوب حرب لا يسلم أحد من أضرارها، وقد لا تحبّذ أنقرة أن تكون شريكاً فيها.
العلاقات التركية الإيرانية أمام منعطف في ظلّ تطوّرات متسارعة، فهل تقود الطموحات الإقليمية وإرث الماضي إلى توتّر أوسع، أو تضبط لغة التعاون والمصالح المشتركة المسار؟
أمين قمورية