ترامب جديد… وشرق أوسط أجدّ (1)

بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
ليس دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض، هو الرجل الذي عرفناه بين 2016 و2020، ولا الشرق الأوسط هو الإقليم الذي عرفه الرجل خلال رئاسته… هنا محاولة لرسم سيرته، بين أمسه وحاضره.
الرئيس الأميركي الـ47، بات شخصية سياسية متمرّسة، تسيطر على الحزب الجمهوري ومفاصل الحكم الأميركي، في لحظة تمثّل واحداً من انتصارات الجمهوريين التاريخية، في السياسة الأميركية والدولية. فهو عاد إلى البيت الأبيض بفارق كبير على منافسته كامالا هاريس، حاصداً البيت الأبيض وغرفتَي الكونغرس والتصويت الشعبي، على نحو يؤكّد عمق شعبيّته وشعبيّة شعاره “أميركا أوّلاً” لدى قاعدة أميركية عريضة تمتدّ من المناطق الريفية إلى نخب كبريات المدن والضواحي.
زد على ذلك أنّ ترامب في ولايته الثانية، يبدو متخفّفاً من طموحات إعادة الانتخاب مرّة ثالثة، ومنكبّاً على صناعة إرثه الشخصي والسياسي في أميركا والعالم. وهو ما قد يجعله، خلافاً للرئيس الذي عرفناه، أكثر براغماتية في التعامل مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، وبالتالي أقلّ توقّعاً بخصوص سياساته وتأثيراتها البعيدة المدى.
أمّا الشرق الأوسط، الذي تأثّر عميقاً بسياسات ترامب خلال فترته الأولى، فيبدو اليوم إقليماً مختلفاً تماماً عمّا واجهه سابقاً:
• بفعل تحوّلات جيوسياسية كبرى، كان آخرها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وما تبعه من انكسار مفاجئ للهلال الإيراني.
• وتقدّم تركيّ في المشرق العربي.
• ووصول تنظيم متشدّد إلى سدّة الحكم الانتقالي في سوريا، مع كلّ ما يعنيه ذلك من إعادة رسم موازين القوى الإقليمية.
إلى ذلك، نجحت التحالفات الجديدة بين إسرائيل ودول عربية في تجاوز اختبارات الصراعات الدامية والمستمرّة كحرب غزة، وهو ما عزّز فرص التعاون الإقليمي ودوام الترتيبات الاستراتيجية في المنطقة، بما يحمله ذلك من انعكاسات على صعيد تعريف الشرق الأوسط الجديد.
إيران: الخنق والاغتيال… والنّوويّ
احتلّت إيران موقعاً محوريّاً في استراتيجية ترامب تجاه الشرق الأوسط خلال فترته الأولى. انسحب الرئيس الأميركي من الاتّفاق النووي لعام 2015، وشنّ حملة “الضغط الأقصى” التي زعزعت اقتصادها وساهمت، ولو مؤقّتاً، في الحدّ من سعي إيران إلى تحقيق طموحاتها. تراجعت مبيعات النفط الإيرانية، بسبب استراتيجية ترامب، من 2.5 مليون برميل يومياً في عام 2018 إلى أقلّ من 500,000 برميل بحلول عام 2020، وهو ما حرم النظام من مصدر إيراداته الأساسي.
أدّى هذا الخنق الاقتصادي إلى اندلاع احتجاجات شعبية واسعة في إيران عام 2019 نتيجة ترهّل هيبة النظام وإظهار فشله الاستراتيجي. كما حدّت الأزمة الماليّة بشكل كبير من قدرة إيران على تمويل ودعم وكلائها مثل “الحزب” والحوثي والميليشيات الشيعية في سوريا وعرقلت قدراتهم التشغيلية. اقترنت حملة العقوبات القاسية هذه برسالة ردع حاسمة لإيران، تمثّلت في اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وهو ما أضعف قيادة الشبكة الإقليمية لإيران وفعّاليّتها العملياتيّة.
يجد ترامب نفسه اليوم أمام إيران وهي في أضعف حالاتها بعد خسارتها لحماس و”الحزب”، وسقوط نظام الأسد، وتلاشي الهلال الإيراني فعليّاً. وهو ما قد يغريه بالجمع بين سياسات الضغط الأقصى والردع الحازم وبين دفع إيران لتغيير سلوكها وتوجّهاتها من الداخل.
لن يتردّد ترامب في أن يُضاعف العقوبات الاقتصادية، مستهدفاً القطاعات الحيوية في إيران مع تعزيز التحالفات الإقليمية بين الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج وإسرائيل، لتشكيل جبهة موحّدة تضمن شلّ أيّ محاولات إيرانية لإعادة بناء نفوذها.
على الرغم من تجنّبه الحروب الطويلة، سيعتمد ترامب على استعراض القوّة العسكرية لضمان الردع، مع فتح باب المفاوضات بشروط صارمة تطال البرنامج النووي الإيراني، وتفكيك برنامج الصواريخ البالستية وإنهاء سياسة دعم الميليشيات الإقليمية.
محاصرة المتشدّدين… والرّهان على بزشكيان
بالفعل يدرس فريق ترامب الانتقالي خيارات متعدّدة للتعامل مع برنامج إيران النووي، تشمل تعزيز الضغط العسكري عبر زيادة القوّات والطائرات والسفن الأميركية في الشرق الأوسط، وبيع أسلحة متطوّرة لإسرائيل مثل قنابل خارقة للتحصينات لدعم أيّ هجوم محتمل على المنشآت النووية الإيرانية، بما في ذلك مواقع مثل نطنز وفوردو.
إلى ذلك، وبعد غزة ولبنان وسوريا، سيعمل ترامب على تقويض نفوذ إيران الباقي في العراق واليمن، مستغلّاً بشكل حاسم لحظة الضعف الإيرانية الراهنة لفرض شروطه وإضعاف دور طهران في المنطقة لعقود مقبلة.
سيعتمد الكثير على سلوك إيران في المرحلة المقبلة. ضعف الجمهورية الإسلامية يضعها أمام مفترق طرق حاسم، فإمّا أن تستغلّ الضغوط المتزايدة كفرصة لإعادة صوغ سياساتها على أسس واقعية وبراغماتية، أو أن تختار التصعيد عبر تسريع جهودها لإنتاج السلاح النووي.
يبرز في هذا السياق الرهان الهشّ على الرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشكيان، الذي دفعته العقوبات الاقتصادية والتراجعات الإقليمية إلى تبنّي خطاب يدعو إلى التفاوض مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بهدف إدارة التوتّرات وخفضها بدلاً من تأجيجها. يعكس هذا التوجّه مساراً جديداً، وإن غير موثوق، قد يُعيد ترتيب الأولويات الإيرانية داخلياً وخارجياً، بما يقلّل من نفوذ التيار المتشدّد ويسمح بإعادة التركيز على بناء الاقتصاد وتعزيز الاستقرار الداخلي والمصالحة المجتمعية.
سبق أن أشار وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، ونائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية، في مقالة مهمّة في مجلّة “فورين أفيرز”، إلى أنّ إيران مستعدّة للانخراط في حوار متوازن وشامل إذا ما كان قائماً على الاحترام المتبادل وتقديم منافع ملموسة، وهو ما يُبرز فرصة للتغيير تظلّ محاصرة بالشكوك نتيجة التجارب السابقة الفاشلة.
فلسطين: نهاية “الدولتين”…
لم يقتصر الهجوم الذي نفّذته حركة حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، على تصعيد العنف وإدخال المنطقة في حرب متعدّدة الجبهات، بل أصاب موقع القضية الفلسطينية على الساحة الدولية في مقتل.
الردّ الإسرائيلي العنيف على غزة وما تبعه من دمار ومعاناة إنسانية، وما مهّد له من تبرير سياسات أكثر تطرّفاً عند اليمين الإسرائيلي، مثل توسيع المستوطنات في الضفّة الغربية وتكريس السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، أنهيا تقريباً فرص تحقيق حلّ الدولتين.
كسب الفلسطينيون حيث لا يحتاجون إلى الكسب، أي تعزيز شعبية القضية الفلسطينية، التي لا تزال تحظى بتعاطف واسع على المستوى الشعبي في مختلف أنحاء العالم. وخسروا في المعادلات التي تشتدّ حاجتهم إليها، وهي شروط تحقيق الدولة والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
يتبع غداً
نديم قطيش

التعليقات (0)
إضافة تعليق