بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
سقط بايدن في 27 حزيران، فتبدّلت حسابات القوى الثلاث المهيمنة على مشهد المنطقة، من غزة إلى اليمن.
ماذا سيحصل في الأيام المقبلة، لا بل منذ ما قبل أسابيع حتى مطلع السنة المقبلة؟
سؤال يجد جوابه في هذه النقاط حول حسابات كلّ من واشنطن وتل أبيب وطهران.
أوّلاً في واشنطن كان بايدن، قبل المنازلة التي أردته، يستميت لتحقيق خرق غزّي يستثمره في الداخل الانتخابي. ضغط على نتنياهو بكلّ وسائله. ألبّ ضدّه إعلامه وذوي الأسرى حتى وزراءه. حتّى بلغ حدّ تهديده بكلام من رئيس أركان الجيوش الأميركية، بأنّه إذا ذهبت إلى الحرب فستجد نفسك وحيداً.
في المقابل ضغط على “الحركة” بواسطة الدوحة والقاهرة والداخل الفلسطيني، وحتى عبر الصين.
اليوم تبدّلت حسابات بايدن كلّياً. لم يعد مضطرّاً إلى بذل تلك الجهود والضغوط. فكيف سيتصرّف من الآن حتى نهاية ولايته عشيّة 20 كانون الثاني المقبل؟
ثمّة رأيان حول احتمالات ذلك.
رأي أوّل يقول إنّ الثمانينيّ الخارج من نصف قرن قتال للسلطة، بات اليوم متحرّراً من اعتباراتها ومقتضياتها. وهو لذلك سيكون أكثر قدرة وعزماً على ممارسة الضغوط لإنجاح مقترحه للتسوية، وبالتالي لترك بصمة تاريخية في سجلّ صراع الشرق الأوسط. وربّما يحلم الرجل بوقوفه بعد أشهر على مسرح الأكاديمية السويدية، خطيباً فائزاً بجائزة نوبل للسلام، تعويضاً له عن رئاسة أُسقطت منه بضربة فوق مسرح آخر.
رأي ثانٍ لا يستبعد أن يكون “زوج الدكتور جيل” يتمنّى ذلك، ويتمنّى أن يثأر من خبثاء حزبه وحاشيته بخطوة وداعيّة من النوع الملكي.
لكنّ الاعتبارات التي دفعته للخروج من سباق الرئاسة ستكون هي نفسها حاضرة وازنة ضاغطة بل حاسمة في سلوكه حتى اللحظة الأخيرة من إقامته في البيت الأبيض.
الدّيمقراطيّون يلاحقون بايدن
الرجل أُزيح حين توافق أركان الحزب الديمقراطي على إبلاغه الرسالة الحاسمة: الرئاسة ليست ملكك. وهزيمتك لم تعد مقتصرة التداعيات على الرئاسة وحدها. صرنا أمام خطر جدّي أن تسقط أنت في تشرين الثاني، وأن يكون سقوطك عظيماً، بحيث ينسحب على سقوط حزبنا في انتخابات الكونغرس أيضاً. وهذا أمر ممنوع. لذلك تفضّل وتنحَّ!
وفق هذا الرأي الثاني، سيتابع الديمقراطيون ملاحقة بايدن حتى آخر يوم من ولايته. وسيتحكّمون به وبأفعاله، ومن ضمنها موقفه من صراعات الشرق الأوسط، مسايرةً منهم لإسرائيل.
بالتالي لن يكون الرئيس الخارج والمرشّح المخلوع حرّاً في سلوكه حيال إسرائيل ولو لم يعد متسابقاً لاهثاً خلف تأييد لوبي إيباك وأخواته. فالظروف التي فرضت عليه التنحّي ستكمل في فرض مماشاة إسرائيل ونتنياهو شخصياً. وهذا ما ظهر في مواقف الرجلين بين تاريخ الإعلان عن زيارة نتنياهو لواشنطن وتاريخ حصولها.
في البداية بدا الأخير راغباً في عقد لقاء مع بايدن، ملحّاً حتى الإصرار في تسوّل الموعد.
فيما بدا بايدن غير متحمّس للاجتماع به، حتى أظهر تدلّلاً وتنصّلاً من تأكيده وتحديد موعده.
أمّا بعد سقوط بايدن على الشاشة الفضيّة، صار هو من يلاحق نتنياهو لتأكيد لقاء بينهما، فيما بدا الأخير يتدلّل حتى الازدراء. وهو ما كرّسه أصلاً في كلّ كلمة تفوّه بها أمام الكونغرس الأميركي…
اللّجم الأميركيّ لنتنياهو أوهام
باختصار يعتبر الرأي الثاني أنّ واشنطن اليوم صارت ملحقة بسياسات تل أبيب، لا العكس. وقد تصير أكثر التحاقاً واستلحاقاً كلّما اقترب ترامب من تأكيد عودته المظفّرة. وهو ما يعني بالتأكيد أنّ الكلام عن ضغوط أميركية للجم نتنياهو بات من نوع الأوهام، حتى إشعار آخر.
ثانياً، لا شكّ أنّ حسابات إسرائيل تبدّلت أيضاً. يكفي قلب المنطق السابق لتطبيقه على وضع نتنياهو اليوم. ما عاد الرجل عرضة لضغوط بايدن، ولا مضطرّاً إلى ممالأته، بل العكس هو الصحيح. وهو ما لم يتأخّر الرجل في التعبير عنه بشكل نزق في خطابه في واشنطن. قال للأميركيين إنّه يدافع عنهم. وألمح لهم بالتالي أنّ عليهم دفع ثمن ذلك. وهو مرتاح إلى الوقت الآتي، حتى يعود ترامب، ولو شابت علاقته به بعض رواسب ماضية، لكنّه واثق من صلابة تعاونه المقبل معه، حتى قيل إنّ الرجلين لم يتركا الأمر للمصادفات أو التحاليل، بل عقدا أكثر من اجتماع لأركانهما للتنسيق حول تعاونهما المشترك في ولاية ترامب الثانية العتيدة.
باختصار هنا أيضاً، بات نتنياهو هو المتحرّر من سطوة واشنطن، وحتى إشعار آخر أيضاً.
ثالثاً تبقى حسابات طهران.
هاجس نظام الملالي هو عقد صفقة مع واشنطن، لكن بشروط مقبولة مربحة راجحة لمصلحتهم، إن لم تكن صفقة بشروطهم. وهم كانوا يعدّون العدّة لإعادة إحياء شهر العسل العابر بينهم وبين أوباما، نوويّاً وطبعاً ماليّاً وسياسياً وعلى صعيد نفوذ المنطقة خصوصاً.
جاؤوا لذلك برئيس إصلاحي غير معمّم. ضبطوا ردود فعل أذرعهم في كلّ المنطقة عند حدود القيام بخطوات تذكيرية لا انتقامية، فقط للقول لنائب أوباما الدائم إنّنا هنا وما زلنا جاهزين لتكرار صفقة 2015، مع ضمانة ألّا تتكرّر فلتة ذلك الكاوبوي النيويوركيّ، التي أطاحت باتّفاقنا وكلّ تفاهمنا.
بدت طهران جاهزة بذلك لتسليف بايدن انتخابياً، مؤكّدة ذلك في خطوات من نوع:
ضبط “حماس” وتحجيمها ميدانياً حتى تطوّعها للسير بمقترح واشنطن.
إسكات وكلاء “الحاءات” الثلاث من أذرعها بين البحرين الأحمر والمتوسط، أي حوثي وحشد وحزب، في كلّ من صنعاء الملالي وبغدادهم وبيروتهم.
كلّ ذلك علّه يساعد بايدن في انتخاباته، بما يشكّل استثماراً مربحاً بعوائد قصيرة الأجل. وإذ سقط بايدن، فسقط الرهان والاستثمار، فانكفأ الملالي فوراً إلى لغة مضادّة لردع نتنياهو المتحرّر والمتفلّت. أرسلت صنعاء فجأة مسيرّة إلى تل أبيب. وعادت فجأة أيضاً قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق هدفاً لقصف الحشد. فيما “الحزب” في بيروت يطيّر هدهده في مواقيت سياسية بامتياز.
هكذا تبدو كلّ الحسابات ميّالة نحو التصعيد، وتحديداً في الوقت الضائع بين خلع بايدن المعجّل، وتنصيب ترامب المؤجّل الذي سيظلّ غير مؤكّد حتى غداة 5 تشرين الثاني المقبل.
التصعيد قد يظلّ محسوباً، وقد يتخطّى ضوابط الحساب كلّها. ذلك أنّ بين أطرافه الثلاثة قواسم مشتركة واضحة. فترامب ونتنياهو (ولو شكلاً) وملالي طهران يحسبون جميعاً أنّهم ملهمون من فوق لا من هنا، ويحسبون أنّهم مكلّفون برسالة سماوية لا أرضية، وأنّهم ربّما حين يسرّعون انتقال بشرهم إلى هناك، إنّما يقدّمون لهم “خدمة العمر” حرفيّاً. وثلاثتهم يهتمّون للتاريخ لا للمستقبل، وللآلهة لا للبشر. وثلاثتهم يحسبون أنْ حسبهم الله ونعم الحاسب والمُحاسب لكلّ من يقف ضدّهم!
جان عزيز