بقلم الفضل شلق
وإذا قيل إن تبني العربية كلغة محكية، فهذا الأمر لا يناقض أن المحكية مفرداتها مأخوذة كلها من الفصحى، ولا بدّ من الأخذ بالاعتبار قول ابن جني في أن كل ما قيس على كلام العرب فهو من لغتهم.
لقد انضمت على مدى قرون بعد الفتوحات شعوب كثيرة إلى اللغة العربية. هذا أساسي في تكوين هويتها بغض النظر عن الدين أو التحوّل. واللغة في أساس التحوّل الثقافي، أو بالأحرى نشوء ثقافة جديدة فوق الثقافات المحلية. وكما أن هناك “لينغوا فرانكا”، هناك ثقافة عامة جمعت شعوباً ما كان لها ذلك لولا اللغة.
إن نظرية الانحطاط التاريخي قبل الاستعمار هي تبرير له عن قصد أو غير قصد، إذ تحيلنا إلى برابرة دون أن نكون كذلك. لكنها تعطي الغرب حجة من أجل جلب المدنية إلينا. فما حدث من تأخر في الفترة السابقة للاستعمار إن هو إلا نتيجة سياسات الامبراطورية العثمانية التي ارتكزت على اعتبار الشعوب بما فيها العرب مجرد رعايا أو أدوات إنتاج، مهمتها العمل لتأدية الضريبة التي تخدم بقاء الامبراطورية وبذخها وحروبها. فالجريمة الكبرى التي ارتكبتها الامبراطورية العثمانية، كما الدين السياسي، وكما الاستبداد لاحقاً بعد ما يسمى الاستقلال، هي في احتقار الشعوب العربية وغيرها من الشعوب الخاضعة، واعتبارها ماكينات إنتاج، لا أكثر أو أقل، لا بل إن وجود هؤلاء الخاضعين لا مبرر له إلا في خدمة الدولة العليا، وبذل الأنفس في العمل من أجل دفع الضرائب التي تؤمن استمراريتها. وذلك أخذاً بالاعتبار اعتماد الدولة العليا على الغرباء الانكشارية في جيشها، وإخراج من يمت إليها بنسب أو قرابة (السباهية) من الجيش. وفي النهاية، أي في بداية القرن التاسع عشر تم القضاء على الانكشارية نفسها واعتماد وسائل حديثة في الجيش والقتال.
الخراب الكبير
لا بدّ من التحدث عن ما لحق بشعوبنا نتيجة السياسات العثمانية اللاإنسانية، وانتهاكها لمقومات وجودهم، واعتبار الفلاحين، وهم أكثرية السكان، مجرد أدوات أو قطعان تم تجهيلها كي تستحق هذا اللقب، واستخدامها لإغراق الطبقة الحاكمة التي ما كانت تملك الأرض بل تعمل فقط لفترة وجيزة في جباية أهل الأرض، وكانت مراكزها ومناصبها تتبدل بسرعة، أو تتجدد كل عام ليتولى ملتزم الضرائب، أو الوالي منصبه وهو خائف من عدم التجديد له. فليس أمامه إلا جباية الحد الأقصى، وتشليح كل ما يمكن من الفلاحين وبقية الناس، وما دخل في اعتباره عمارة الأرض لأنه معرض في كل لحظة لأن يتركها إلى مكان آخر إذا أتيح له. فالطبقة العليا لم تكن تتشكّل من ملّاك لهم مصلحة في عمارة الأرض لما تدر عليهم من فوائد؛ بل تتشكّل من مقاولين ليس لهم مصلحة إلا في اعتصار خيرات الأرض قبل مغادرتها. قامت الفيودالية الأوروبية على الثبات في الأرض، بينما ارتكز نظام المقاطعجية العثمانية على عدم الثبات في الأرض والخوف الدائم من حلول آخرين في الالتزام الضريبي. فما يهمهم هو المدى القصير، بينما الفيودالية الأوروبية كان في وسعها اعتماد المدى الطويل. فالغابة التي يقطعها ويحرثها كان بحاجة إلى تجديدها، بينما المقاطعجية (ملتزمو الضرائب) العثمانيون ما كانوا بحاجة لتجديد أرض كانوا يعرفون سلفاً أنهم لن يدوموا في حيازتها. وقد بدأ التصحّر قبل نهاية الامبراطورية العثمانية بزمن طويل، مما لم يحدث في الفيودالية الأوروبية. فهؤلاء أيضاً نهبوا الفلاحين واستولوا على المشاعات. لكنهم كانوا بحاجة إلى الاعتناء بالأراضي التي اغتصبوها للرعاية أو للزراعة، لكنها كانت لهم على المدى الطويل. في حين أن الأراضي عند المقاطعجية لم تكن ملكاً لهم بل كانت نظرياً ملكاً لحاكم الدولة المركزية. وفي واقع الأمر لم تكن ملكاً لأحد. ملكية السلطان للأرض كان مؤداها أن تكون لا ملكاً لأحد. فلا يهتم بها من يتصرف بسكانها. ولا يرى فيهم إلا ماكينة تُعتصر منها الضرائب. وإذا كانت المدن العثمانية قد حافظت على حرفها وتجارتها فإن ذلك ما كان إلا لأن المجتمع حافظ على بعض حيويته، برغم سياسات الدولة العليّة. كانت الدولة العثمانية تحمل بذور فنائها في أحشائها، فجاءت الحرب العالمية الأولى إعلاناً لذلك.
وعندما يتساءل أحدهم عن أسباب عدم نمو رأسمالية وطبقة بورجوازية، يمكن أن يكون الجواب في المصادرة وعدم اعتبار الملكية الخاصة للأرض أو للأموال المنقولة. إذ المعروف أنه ما كان يفقد أحدهم منصبه في الدولة العليّة حتى تبدأ دورة التعذيب لمعرفة مكان تخبئة ماله. فلم يكن المال ملكاً أبدياً لصاحبه، بل كان حيازة مؤقتة ما دام في السلطة. كان السلطان هو الآمر الوحيد، وبالتالي المالك الوحيد الذي يحق له بسبب القوة الغاشمة استرداد ماله من ملتزمي الضرائب، الذين يفقدون حيازتهم حالما يفقدون منصبهم، مما جعل التراكم أمراً مستحيلاً.
ما كان هم الدولة العليّة نمو التراكم ولا قيام طبقة بورجوازية. فهي لم تكن لها منافسة مع طبقة فيودالية غير موجودة. والمعروف أن الدولة الحديثة مع ملكية أو بدونها قامت بتحالف السلطة مع البورجوازية ضد الفيودالية. وهذا الأمر لم يكن متاحاً في الدولة العثمانية، التي كان بقاؤها مستنداً إلى المدى القصير والعشوائية في السلطة وفي ملكية الثروات. كانت السلطة الأوروبية، لسبب أو لآخر، تبني دولة بينما كانت السلطنة العثمانية تُهدّم مجتمعات. وقد كان لهذه المجتمعات خزين كبير جعل العشوائية العثمانية قادرة على البقاء قروناً. وما كان البقاء ممكناً لولا هذا الخزين الذي عملت على تبديده. الخراب الكبير الذي تحدث عنه فولين كان حصيلة التدبير الذي أدى إليه الحكم العثماني، الذي كان شأنه سياسياً وعسكرياً وحسب، بينما شأن الامبراطوريات الفيودالية الأوروبية كان اجتماعياً إضافة إلى ما هو سياسي وعسكري.
الفضل شلق