بيروت – دمشق: السّعوديّة تمسك بالأمن السياسي..

بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
لا يمكن لأيّ مراقب حذق إلّا ملاحظة المسار الاستراتيجي العريض الذي تسلكه المملكة العربية السعودية للنهوض بنفسها والارتقاء إلى مستويات، في السياسة والاقتصاد والثقافة وفلسفة العيش، لم يكن أكثر خبراء المنطقة يتخيّلونها قبل عقود. وفيما عُرفت السعودية قبل ذلك بالمحافظة السياسية إلى درجة تشبه السكون، ضخّ الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ عهده الأمير محمد بن سلمان جرعات من الجرأة والدينامية والرشاقة في قراءة العالم والتعامل مع تحوّلاته. تكفي متابعة رحلة وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان، إلى لبنان وسوريا لاستنتاج سرعة الرياض في التقاط المفاصل التاريخية والانخراط في تفاصيلها.
قد لا تكون صدفة أن يزور الوزير السعودي دمشق من بوّابة بيروت. بدا أنّ الرياض تؤكّد العودة من البحر المتوسّط إلى “الهلال” الذي استثمرت فيه إيران، منذ عام 1979، الغالي والنفيس من أجل السطو عليه انطلاقاً من طهران مروراً ببغداد ودمشق. همس الرئيس اللبناني، جوزف عون، في أذن الوزير الضيف: “أخيراً”، معبّراً في ذلك عن سعادة لبنان بعودة حضور المملكة السياسي بعد سنوات من الهجر. ردّ الوزير مبتسماً: “أخيراً”. وبدت من ذلك الردّ السعودي أبجديّة مستترة تكشف علناً عن عودة “العرب”، بالمعنى القومي والثقافي والتاريخي، إلى الإمساك بقرار العرب.
وأخيراً..
قبل هذه الـ”أخيراً” في قصر بعبدا في لبنان بـ 45 يوماً سقط نظام بشّار الأسد في سوريا. كان ذلك في 8 كانون الأوّل الماضي. ارتبكت بغداد، أُصيبت طهران بالذهول، سكتت العواصم القريبة والبعيدة. حتّى أنقرة المفترض أنّها كانت تعلم أشياء لم تتوقّع هذا النصر وذلك السقوط. تلعثم الجميع وتمسّكوا بحبال التأمّل والتريّث والانتظار. وحدها الرياض رأت ما لم يره الآخرون. والأرجح أنّها قالت: “أخيراً”.
صدرت أوامر عليا استشرفت تاريخيّة الحدث الذي لا يحتمل تأمّلاً واختباراً. أصدرت وزارة الخارجية التي يقودها الأمير فيصل بن فرحان بياناً يشبه أمر عمليّات بدأ تنفيذها مذّاك. في يوم سقوط النظام بالذات، وقبل أن يدرك أهل دمشق نفسها ما يدور في المدينة، كانت الرياض تعلن للشعب السوري “احترام خياره”، وتعرب عن “ارتياحها” للإجراءات التي اتّخذت للحفاظ على سلامته وحقن الدماء والحفاظ على مؤسّسات الدولة السورية. كان ذلك قبل أن تعرف سوريا أنّ رجلاً لم يكن معروفاً باسم أحمد الشرع يقود ذلك التحوّل ويقف وراء ذلك الخيار وتلك الإجراءات.
في 18 تشرين الأوّل 2018، أي قبل 6 سنوات من الحدث السوري، قال وليّ عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان إنّ “أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط”. صفّق حينها الحضور لما اعتبروه قولاً جميلاً. لكنّ الأمير أطلق حينها “عقيدة” ترتبط تماماً برؤية 2030 التي يقودها في بلاده. أدرك أنّه لا يمكن لطموحاته أن تبلغ منتهاها من دون أن يرتفع شأن المنطقة برمّتها. وحين قرّرت السعودية احتضان التحوّل في سوريا من دون تأخّر وتردّد، استقبلت وفد الحكومة الانتقالية، واحتضنت مؤتمراً دولياً عربياً بشأن سوريا، وصولاً إلى زيارة أعلى مستوى في الدبلوماسية لدمشق، حيث توقّع في هذه الأيام بعد بيروت ميثاق انقلاب توازنات تفتح الشرق الأوسط على مشهد آخر.
سوريا والأشياء الصّحيحة
قبل أيّام في دافوس في سويسرا حمل الوزير السعودي قضيّة سوريا من على ذلك المنبر الدولي الرفيع. قال إنّ الإدارة السورية الجديدة “تقول الأشياء الصحيحة في السرّ والعلن، ومنفتحة على العمل مع المجتمع الدولي للتحرّك في الاتّجاه الصحيح”. وحين أتى إلى دمشق أعلن أنّ بلاده “منخرطة في مباحثات لرفع العقوبات عن سوريا ونتلقّى إشارات إيجابية بهذا الشأن”. بدا أنّ الرياض تسوّق لمنطقة من دون نفوذ إيراني على 4 عواصم. وبدا في تواصل الأمير محمد بن سلمان، الخميس، مع الرئيس دونالد ترامب على هامش الحديث عن الاستثمارات السعودية المقبلة في الولايات المتحدة، أنّ الرياض تبلغ واشنطن بشكل نهائي أنّ مشهداً جديداً بزغ في الشرق الأوسط تمسك المملكة مفاتيحه الاستراتيجية. فسواء تعلّق الأمر بالمسألة الفلسطينية أو السورية أو اللبنانية أو تلك المتعلّقة بالسلم والأمن والازدهار في “أوروبا الجديدة”، سيكون للورشة عنوان واحد في الرياض.
في اجتماعه مع الرئيس اللبناني جوزف عون في قصره الرئاسي، ثمّ زيارته رئيس الحكومة المكلّف نواف سلام في دارته في بيروت، انتقى الوزير السعودي كلماته بحيث لا تُحسب تدخّلاً في حسابات إعادة تكوين السلطة في لبنان. ردّد في العلن ما كانت السعودية تشترطه في العلن أيضاً في السنوات الأخيرة، وهو الدعوة إلى تطبيق الإصلاحات “لتعزيز ثقة شركاء لبنان، وإفساح المجال لاستعادة مكانته الطبيعية في محيطه العربي والدولي”. لكنّ ذلك “المرور” بعاصمة لبنان، ثمّ الانتقال إلى العاصمة السورية تركا لدى اللبنانيين والسوريين انطباعاً نهائيّاً بطيّ صفحة معتمة في تاريخ المنطقة وفتح صفحة جديدة للعبور نحو “الاستقرار السياسي” التي تتمنّاها الرياض للشرق الأوسط.