بعد العسكريّ والسّياسيّ… “الحزب” الدبلوماسيّ؟

بقلم أيمن جزيني

«أساس ميديا»

بدا الشيخ نعيم قاسم، في مقابلته الأخيرة، دبلوماسيّاً يعمل في وزارة الخارجية، لا أميناً عامّاً لحزب له ما له من ثقل في لبنان، والإقليم سابقاً، ولا يمكن تخطّي ما يقرّر أو تجاهله.

بعد مئة وثلاثين يوماً على خطابه الأوّل أميناً عامّاً جديداً لـ”الحزب”، خلفاً لسابقَيْه السيّدين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين، وبعد 16 خطاباً، أطلّ الأمين العامّ لـ”الحزب” الجديد، الشيخ نعيم قاسم، للمرّة الأولى في حوار تلفزيوني “على قناتنا” (المنار)، وفق تعبيره. وكأنّ الإطلالات السابقة والخطابات المتتالية في الفترة الزمنية القصيرة الماضية لم تؤدِّ المطلوب منها.

والمطلوب منها أشارت إليه المقابلة الآنفة الذكر بوضوح لا تشوبه شائبة: خطب ودّ “جمهور” “الحزب” وبيئته، وتضخيم صورة الأمين العامّ الجديد، علّ فراغاً أحدثه غياب شخصية كاريزميّة كنصرالله يتبدّد.

حزب بلا سرديّة

53 دقيقةً، بادئ ذي بدء، هي نصف مدّة المقابلة تقريباً، خُصّصت للحديث إلى بيئة “الحزب”، البيئة التي لم يعد يخفى قلقها على أحد، ولا تضعضعها قاعدةً وقيادةً، وبيئةً وجمهوراً وحزباً. خطاب مباشر من “الشيخ” إلى “جمهور الحزب”، ساعةً يخطب فيه ودّهم ويبدّد مخاوفهم بكلمات مباشرة، وساعةً بطريقة غير مباشرة، كأن يشاركهم تفاصيل دقيقةً عن التشييع ولحظات الاستشهادَين الأولى، وعمّا جرى. وما جرى لم يقُله الشيخ نعيم، ولا قال عنه شيئاً. إلى الآن، لم يخرج من حزب الإسناد والمشاغلة تصوّرٌ دقيق أو سرديّةٌ رسمية تشرح للّبنانيين عموماً، ومؤيّدي “الحزب” خصوصاً، ما جرى.

لا تزال البيئة، أو “جمهور المقاومة” كما يفضّل تسميتها الأمين العامّ الجديد، تبحث عن تفسير لما جرى ويجري، وعن تطمينات تُترجَم إعماراً وإنماءً وتعويضات… ولكن لا حياة لمن تنادي.

القداسة مجدّداً

جلّ ما حصل عليه الجمهور تطمينات لفظية وعبارات قديمة كان يردّدها الأمين العامّ الأسبق ويخصّص بها “شعبه”، تضفي عليه هالةً من القداسة. وكأنّ الهزيمة في الأرض لا تنزاح عن كواهل الناس إلّا من السماء بقداسة أو تقديس. فالتشييع كان “إلهيّاً”، نظراً إلى الظروف التي أحاطت بتأجيله ثمّ تنظيمه، كما قال قاسم، والظروف كذلك. والتشييع الإلهي إلهيّ بعناصره كافّةً: المشيَّعَيْن، والمشيِّعين.

وعليه، بالإمكان الحديث عن “هزيمة” إلهية، ما دامت أبواب السماء مفتوحة على مصراعيها للأمين العامّ، يستجلب منها قداسةً ساعة يشاء ولمن يشاء، ويفسّر الوقائع كما يريد للناس أن يفهموها، ويُقدّم حججاً تنفع في كلّ عصر وزمان، ولكلّ هزيمة أو نصر. وآخر تعريف “قاسميّ” للنصر هو: “المهمّ نحنا شو حاسّين”، كما قال الشيخ حرفيّاً. يشعر الشيخ بالنصر، وبالقداسة، وهذا كافٍ، ولا داعي لتفسير النصر وشرحه أكثر، وربّما قال في سرّه: فليجتهد المؤيّدون في تفسيره، فباب الاجتهاد في النصر مفتوح من الآن وصاعداً.

من دون أن يقول شيئاً

استغرقت مخاطبة “الجمهور” ساعةً إلّا بضع دقائق، انتقل بعدها قاسم للخوض في الملفّات المطروحة والإجابة عن الأسئلة المدروسة بعناية، من دون أن يقول شيئاً. بضعة مواقف كان بالإمكان أن يقولها ويردّدها “إعلاميّو” “الحزب”، ومحلّلو “محور المقاومة” الاستراتيجيون.

كلام منمّق لا يقول شيئاً في أيّ ملفّ، فكان نفيٌ للملحق السرّي لاتّفاق وقف إطلاق النار، تملّصٌ ممّا جرى بين أميركا وإسرائيل: “شو خصنا نحنا ع شو اتفقوا”، وتأكيدٌ مبهم على الاستمرار في المقاومة، دون تحديد أو تفاصيل، كما كان يفعل الأمين العامّ الأسبق.

لم تُرفع سبّابةٌ في أثناء المقابلة، وهذا وحده كافٍ لفهم ما جرى وما يجري. لا تهديد ولا وعيد. نصائح ناعمة، ومواقف دبلوماسية لا تقول شيئاً، بل تتملّص من قول أيّ شيء. حتى في الملفّات المطروحة، كالانتخابات والتحالفات ووو… إلخ، لم يقُل الأمين العامّ شيئاً يُذكر. جلّ ما قاله وأفاد به استئنافُ العادات القديمة، أو تركُ القديم على قدمه مثل تأكيد الاستمرار في التحالف مع حركة أمل، من دون أيّ تفصيل جديد، وكلام في العدد.

كان منتظراً أن يتصدّر الشاشات أو المنابر مسؤول أو قائد في “الحزب” لـ”تقريش” التشييع الضخم للأمينَين العامَّين السابقَين لـ”الحزب”، ولكن حتّى هذا حصل بخجل. التشييع للمستقبل، قال، لا لراحلَين شهيدَين، ولم يقُل أكثر من ذلك، بل لم يكلّف نفسه عناء الشرح. كلام عامّ وفضفاض لا يقول جديداً في السياسة ولا في المقاومة ولا حتى في خريطة التحالفات.

وكأنّ المقابلة برمّتها قد أُعدّت وحُضّرت ليعتاد جمهور “الحزب” على الأمين العامّ الجديد، وربّما يحذو حذوه.

فالأمين العامّ الجديد منحاز إلى الثقافة التي منها السياسة وكلّ شيء، وليس كسابقَيْه رجل عسكر و”جهاد”، والإشارات التي أعطاها في هذا المنحى كثيرة.

الدبلوماسيّة الإيرانيّة في ربوعنا

لكنّ الجديد في هذه المقابلة هي الدبلوماسية غير المعهودة لدى “الحزب”، والمعروف أو المشهور بها النظام الإيراني، مموّل “الحزب” ومرشده ومسلّحه.

“المشهد واضح لدينا تماماً، لكن في بعض التفاصيل نحن بحاجة إلى التدقيق”.. “المقاومة بخير ومستمرّة، لكن جُرحت وتأذّت”.. “ثوابتنا لا تزال كما هي”.. “مع رئيس الجمهورية، هناك حرارة معيّنة، حرارة إيجابية. أمّا مع رئيس الحكومة، فلم يستقرّ وضعه بعد، علينا الانتظار… لكنّنا حريصون على التعاون معه”.. “العلاقة قائمة مع التيار الوطني الحرّ والحزب التقدّمي الاشتراكي وغيرهما من القوى السياسية، ولن نتدخّل في سوريا ولا علاقة لنا بما يجري”… إلخ. ما سبق نموذج من دبلوماسية “الحزب” الجديدة، الدبلوماسية التي لا تقول أكثر من: “فلننتظرْ ولننحنِ للريح، ولكلّ حادث حديث، أو فلنبنِ على الشيء مقتضاه”.

يوماً بعد يوم، تتّضح الأمور أكثر فأكثر: “الحزب” العسكري انتهى، وما التشديد والتأكيد على الاستمرار في المقاومة من دون تفصيل يُذكر سوى كليشيه لا يجد طريقه إلى الطباعة أو التنفيذ. أمّا السياسي فهو أقرب إلى العمل الدبلوماسي والمجاملة والاحتفاظ بعلاقات الحدّ الأدنى ريثما تنجلي الغمامة.

“الحزب” الدبلوماسي، المتحصّن هذه المرّة خلف سلاحه الأمضى، أي الجمهور، أخطر من “الحزب” السياسي والعسكري. في الأوّل لا يقول شيئاً ولا نعرف ما يريد ولا كيف سيتصرّف، بينما كنّا نعرفه سابقاً ونعرف وجهته وما يريد.

حقّاً، ماذا يريد “الحزب” اليوم؟ لمعرفة الجواب علينا بكلّ شيء إلّا هذه المقابلة الأخيرة مع الأمين العامّ الجديد.

أيمن جزيني