بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
تطلّبت أزمة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية في شمال شرق سوريا، تدخّل مسعود برزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، مع ما يمثّله من زعامة تاريخية تشمل الأكراد جميعاً في المنطقة. بدا أنّ بين “الإدارة الذاتية” التي تسيطر عليها قوات مظلوم عبدي والإدارة السورية الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرّع، تناقضاً في الأجندات والرؤى، فاستدعى الأمر وصايا القائد الكردي في إربيل.
وصف المراقبون لقاء برزاني- عبدي في إربيل، في 16 كانون الثاني الجاري، بالتاريخي. بدا الحدث اختراقاً أراده برزاني حين بادر إلى إرسال مبعوث إلى الإدارة الذاتية (الكردية) في سوريا. وأظهرت استجابة عبدي السريعة بالانتقال إلى كردستان العراق لمقابلة برزاني، إرادة للتواصل مع مرجعية كردية إقليمية كبرى تتجاوز ما يحكى عن تبعية قيادة “قسد” لقيادة حزب العمّال الكردستاني PKK في جبال قنديل شمال العراق.
ما برح عبدي وبقيّة القيادات حوله ينفون العلاقة بـ “قنديل” من دون أن تحظى تلك الرواية بقبول لدى كلّ أطراف الصراع. فإن كانت تركيا تؤكّد تبعية “قسد” لـPKK المصنّفة إرهابية، فإنّ تقارير غربية، لا سيما أميركية، لم تنفِ هذه المزاعم، وإن كرهتها واعتبرتها من تفاصيل كينونة “قسد” التي تحظى، في ظلّ مهمّات التحالف الدولي ضدّ “داعش”، بدعم غربي عامّ واحتضان أميركي خاصّ.
يكاد عبدي وقومه يؤمنون بأنّ تجربتهم في إدارة كيان ذاتي خلال سنوات الصراع السوري الداخلي منذ عام 2011، ستحظى بشرعية دولية ومحلّية، قد تشبه تجربة الأكراد في إقليم كردستان شمال العراق. ولئن ذهب عبدي لملاقاة برزاني، فإنّه، للمفارقة، يستقوي بتجربة الأخير، أباً وابناً، للمحاججة في حقّه بالمطالبة، على الأقلّ، بما ناله أكراد العراق. ويصرّ عبدي من أجل ذلك الهدف على عدم الاستجابة لدمشق الجديدة، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، التي ترفض، كما دمشق في ظلّ حكم الأسد، منحه اعترافاً بكينونة ذاتية يراها الشرع شكلاً من أشكال التقسيم لسوريا.
التحولات تفرض لهجة تصالحية
قرأ عبدي جسارة التحوّلات في سوريا وجدّيّتها والاحتضان العربي والدولي لها. تغيّرت لهجته، وبدت تصالحيّة تدعو إلى الحوار مع الحكم الجديد. ذهب إلى إعلان استعداد قواته للانخراط في الجيش السوري الجديد استجابة لمطلب الشرع دمج كلّ الفصائل المسلّحة تحت قيادة وزارة الدفاع، وجعل حصرية السلاح في يد الدولة فقط. غير أنّ مظلوم يتمسّك بهامش مناورة يجعله يشترط أن تندمج قوّاته ضمن جسم عسكري خاصّ داخل الجسم العسكري الكبير.
يستقوي الرجل بأوراق رابحة في لحظة تاريخية داهمة. تُرسل الولايات المتحدة، بإدارتَيها السابقة والراهنة، برسائل الدعم لـ”قسد” بصفتها حليفاً في مكافحة الإرهاب، وترفدها بوجود القوات الأميركية الحاضنة. ولئن سبق للرئيس دونالد ترامب أن أمر بسحب هذه القوات في ولايته الأولى كرمى لعين صديقه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فإنّ وزير خارجيّته ماركو روبيو يؤكّد استمرار الدعم للأكراد وعدم التخلّي عن الحلفاء.
الرهان على رادع أميركي
يراهن عبدي على رادع أميركي يضبط تهديدات إردوغان بحسم عسكري. يتأمّل جلبةً في تركيا تبدو جدّية لعقد مصالحة مع القائد التاريخي لحزب العمّال الكردستاني عبدالله أوجلان تنهي العمل المسلّح للحزب. يستنتج أنّ قيادة “قنديل” غير مرتاحة إلى تلك الجلبة، متشكِّكة بمآلاتها ومراميها. يراهن، على الرغم من الضربات التي توجّهها فصائل سورية تابعة لأنقرة، على عدم انخراط الشرع في خيار عسكري في وقت يبعث فيه للعالم رسائل سلم، ويتودّد إلى ترامب ويصفه بـ”صانع سلام” في الشرق الأوسط.
غير أنّ لبرزاني الخبرة والحكمة وحسن الدراية بما هو ثابت ومتحوّل في مواقف الدول. حظي أكراد العراق برعاية دولية متعدّدة الجنسيّات حتّى خالوا دولتهم حتميّة الولادة. أدرك لاحقاً حدود تلك الرعاية حين نظّم عام 2017 استفتاء يمهّد لولادة تلك الدولة. وفيما لم يطالب مظلوم وصحبه بدولة مستقلّة، فذلك لأنّها مستحيلة في الظروف السابقة، لكن يأمل أن تكون متاحة في ظروف لاحقة. بالمقابل أراد برزاني من مظلوم مجموعة وصايا تحمي المُنجز ولا تغامر بالإيمان بأوهام سبق لأكراد العراق أن خبروها وذاقوا لسعاتها.
حكاية أكراد العراق غير حكاية أكراد سوريا
يروي وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري عناوين لقاء برزاني- مظلوم. يذكّر السياسي القريب من برزاني بأنّ حكاية أكراد العراق منذ الانتداب البريطاني مروراً بالعهد الملكي، تختلف في سياقاتها التاريخية عن أكراد سوريا. يذكّر أيضاً بأنّ الحكم الذاتي في العراق تحقّق عام 1970، في عهد الرئيس صدّام حسين، قبل أن يصبح جزءاً من الدستور الفدرالي في عراق اليوم، فيما لم يعرف أكراد سوريا مساراً مماثلاً.
بدا أنّ برزاني نصح ضيفه بالابتعاد عن الـPKK، وعدم تكبير حجم الطموحات، بما في ذلك “التجاوز” على مناطق الآخرين. لكنه، في مقابلة خاصة، أعلن في 24 الشهر الجاري، في موقف واضح أنه “حان الوقت أن يترك حزب العمال الكردستاني الأكراد في سوريا أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن لا بتدخل في شؤونهم، وأن يترك المنطقة”. أضاف: “فوجودهم يعتبر مشكلة كبيرة وحجّة أيضا للتدخّل التركي”.
نصح برزاني عبدي أيضاً بالمشاركة بشكل حيويّ في المؤتمر الوطني في سوريا، والمساهمة في كتابة الدستور، لأنّه، حسب قول زيباري، هو “المحكّ” بشأن هويّة سوريا المقبلة. يضيف أنّه على الرغم من تمتّع أكراد سوريا بدعم أميركي أوروبي وتفهّم دولي، بما في ذلك عربي، إلّا أنّ “عليهم التصرّف كوطنيين سوريين وواقعيين في طرح مطالبهم”. تحدّث زيباري عن أنّ إقليم كردستان جاهز لمساعدة أكراد سوريا، خصوصاً من خلال العلاقة المميّزة التي يمتلكها برزاني وحزبه والإقليم مع تركيا لإبعاد شبح مواجهة عسكرية.
لأكراد سوريا حقوق مشروعة في الإدارة والمشاركة والثقافة واللغة، وعانوا في ظلّ الحكم السابق من تشكّك في مواطنيّتهم السوريّة وانتمائهم إلى هذا البلد. والأرجح أنّ برزاني نصح بالعقلانية والواقعية والذهاب إلى موقف كردي موحّد… ثمّ موحّد ثمّ موحّد… يضع حدّاً لانقسام الأكراد في الحوار مع دمشق. يقول زيباري إنّها “فرصة ذهبية” في حال سلك الأكراد السوريون درب الواقعية والمنطق، ثمّ يضيف في ما يشبه التحذير: “إذا تصرّفتم بشكل مغاير فربّما لن نستطيع مساعدتكم”.
ما بين الوصايا والتحذيرات خيط رفيع من خبرة برزاني بإربيل في الاستفادة من المتاح وتجنّب علوم المستحيل.
محمد قواص