بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
في جلسة للبرلمان الأوروبي عام 2015، دخل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند برفقة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ووجّها أوّل خطاب مشترك لقائدَي البلدين منذ سقوط جدار برلين عام 1989. انتهزت جان مارين لوبن تلك اللحظة لتخاطب ميركل بالقول: “شكراً لمجيئك مع نائب المستشار الذي يدير مقاطعة فرنسا”، في إشارة إلى هولاند.
كانت تلك لحظة رمزيّة للعداء الذي يكنّه اليمين المتطرّف للمؤسّسات الأوروبية، في ما يعرف بـ “الشكّ الأوروبي”- (Euroskepticism). وهذا تعبير يُظِللّ مروحة واسعة من المواقف اليمينية واليسارية المتطرّفة تجاه تدخّل مؤسّسات الاتّحاد في السياسات المحلّية، اقتصادياً وماليّاً واجتماعياً.
يحتلّ هؤلاء المتشكّكون قلب البرلمان الأوروبي حالياً. في فرنسا، فاز حزب “التجمّع الوطني”، بزعامة لوبن، بنحو 33% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي، وانتقل تصنيفها عمليّاً من حالة متطرّفة في أقصى اليمين إلى طرف رئيسي في المعادلة السياسية يفرض موقعه في مكانٍ ما على يمين اليمين التقليدي. وستكون الانتخابات المبكرة التي أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 30 حزيران و7 تموز، فرصة للوبن لاقتسام السلطة وتقديم نجمها الشابّ جوردان بارديللا لرئاسة الحكومة، قبل ثلاث سنوات من الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي لن يكون بإمكان ماكرون الترشّح فيها. وبالتالي ستكون الساحة مفتوحة أمام اليمين المتطرّف لتولّي السلطة بالكامل، وإعادة رسم المشهد السياسي على أساس التنافس بين يمين الوسط و”اليمين الجديد”.
في ألمانيا، تراجع الاشتراكيون الديمقراطيون بزعامة أولاف شولتز إلى المركز الثالث، وتراجع معهم حزب الخضر، فيما تقدّم “حزب البديل” اليميني المتطرّف إلى المركز الثاني بنحو 16% من الأصوات. وحافظت أحزاب “أقصى اليمين” على الصدارة في إيطاليا وهولندا والمجر والنمسا.
في المحصّلة، جمعت أحزاب اليمين الجديد نحو 175 مقعداً من أصل 720 مقعداً في البرلمان الأوروبي، وباتوا يشكّلون ثاني أكبر قوة في البرلمان خلف يمين الوسط والمحافظين، لكن لا بدّ من التدقيق في قدرة هذه القوى اليمينية المتطرّفة على صياغة أجندة سياسية موحّدة في ملفّات الاقتصاد والسياسة الخارجية ومؤسّسات الاتّحاد، خصوصاً أنّ التلوينات داخل هذا الطيف بدأت تتمايز أكثر فأكثر في السنوات الماضية مع دخول بعض أحزابه إلى الحكم، أو اقترابها من ذلك على الأقلّ.
اليمين يبدّل ثوبه
على سبيل المثال، تغيّر خطاب رئيسة الوزراء الإيطالية بشكل كبير منذ أن دخلت السلطة، فنزعت لباس الشعبوية المفرطة، بما في ذلك مديحها العلني لموسيليني يوماً، لتتبنّى خطاباً يقرّبها أكثر إلى يمين الوسط. وكذلك فعلت لوبن في السنوات الأخيرة، في إطار تأكيدها المتكرّر أنّ حزبها “جاهز لتولّي الحكم”، وليس مجرد حركة مشاغبة في أقصى اليمين. وحتى زعيم اليمين الهولندي المتطرّف خيرت فيلدز لطّف خطابه الشديد العداء للإسلام بعض الشيء قبل الانتخابات الأخيرة الشهر الماضي. كما أنّه لطّف كثيراً خطابه المعادي للمؤسّسات الأوروبية، وهو الذي كان قد وعد في السابق بتنظيم استفتاء لإخراج هولندا من الاتحاد الأوروبي، على غرار استفتاء “البريكست”.
لكن في المقابل، ما زال في هذا الطيف أحزاب لم تدجّنها السلطة بعد، ومنها “حزب البديل” الألماني، الذي يُلاحق عدد من مسؤوليه بتهم التطرّف اليميني. وقد تمّ الكشف قبل أشهر عن اجتماع سرّي عقده بعض رموز الحزب مع عدد من النازيين الجديد ومسؤولين في أحزاب أخرى، للتحضير لخطّة ترحيل جماعي لمليونَي لاجئ من البلاد.
لا شكّ أنّ اختلاف مراحل النضج لدى الحركات اليمينية، واختلاف الأجندات والحسابات المحلّية، يجعل من الصعب على أحزاب اليمين المتطرّف بناء جبهة موحّدة تحرّك دفّة الاتحاد الأوروبي. ومن مظاهر ذلك حرص لوبن على النأي بنفسها عن “البديل” الألماني، ورفضها تشكيل جبهة معه.
ميزان التغيير
إلا أنّ مقياس تغيير اليمين المتطرّف للمؤسّسة الأوروبية أو تغيّره داخلها، يمكن أن يقاس في أربعة ملفّات أساسية:
1- الهجرة واللجوء: وهذا هو الملفّ الأساسي الذي أسهم في صعود اليمين المتطرّف. ولا شكّ أنّ قوى يمين الوسط تستشعر مدى تأثيره على الناخبين، وهو ما حداها إلى تقديم الكثير من التنازلات وتبنّي الكثير من مفردات اليمين المتطرّف. وقد بدا ذلك لدى إقرار البرلمان الأوروبي الشهر الماضي لما عرف باسم “ميثاق الهجرة واللجوء”، الذي سيدخل حيّز التنفيذ العام المقبل. كما ظهر في قانون الهجرة الذي أقرّه البرلمان الفرنسي في كانون الأول الماضي. وبات أمراً واقعاً أنّ ترحيب أوروبا بالمهاجرين واللاجئين لم يعد ممكناً في أيّة أجندة سياسية حاكمة أو طامحة للحكم.
2- السياسات الخضراء: بدا من نتائج الانتخابات أنّ الأحزاب الحاكمة لم تقدّر حجم المعارضة للسياسات البيئية المكلفة التي تتبنّاها. وقد كانت أوضح الإشارات لتلك المعارضة الاحتجاجات الكبيرة التي نفّذها المزارعون في العديد من دول الاتحاد أخيراً. وقد أدّت تلك الاحتجاجات إلى التراجع عن قواعد تنظيمية صارمة لاستخدام المبيدات الحشريّة. يضاف إلى ذلك الاحتجاج في الأوساط الشعبية الألمانية على الإجراءات الرامية إلى تغيير أجهزة التدفئة العاملة على الغاز بأخرى كهربائية، بالنظر إلى التكاليف الإضافية والأعباء المعيشية التي ترتّبها.
3- روسيا والسياسات الدفاعيّة: يميل اليمين المتطرّف إجمالاً إلى سياسة لا تعطي أولوية للعداء مع روسيا على النحو المتشدّد الذي انتهجه ماكرون وشولتز ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بعد الحرب الأوكرانية. ولذلك لا تؤيّد أحزابه في العموم زيادة الإنفاق الدفاعي وفق معايير حلف الناتو، التي تتطلّب زيادة الإنفاق إلى 2% من الناتج المحلّي، وذاك عبء كبير على دولٍ غارقة في عجوزات كبيرة في موازناتها العامّة. غير أنّ أحزاب اليمين تتمايز على هذا الصعيد. فجورجيا ميلوني، مثلاً، تتبنّى الخطّ الأوروبي العامّ في الموقف المتشدّد من روسيا.
4- المؤسّسات الأوروبية: لطالما رسم التشكّك في المؤسّسات الأوروبية خطّاً مشتركاً بين أحزاب اليمين المتطرّف. فالنزعة القومية لدى هذه الأحزاب تميل إلى إعلاء الاستقلالية الوطنية في وجه “إملاء” مؤسّسات الاتحاد الأوروبي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية. وأكثر ما تتصاعد تلك النزعات حين تتضارب المصالح بين الدول الأعضاء، كما يحدث عادة في السياسات الزراعية والصحّية، وسياسات الهجرة واللجوء.
تبقى أخيراً ضرورة التمييز بين النزعة اليمينية إلى إعلاء القومية المحلّية، والنزعة الجديدة إلى الحفاظ على الهويّات الأوروبية في مواجهة موجات اللجوء. والفرق بين هاتين النزعتين مهمّ لتحديد مدى قدرة اليمين المتطرّف على صياغة مشروع في إطار المؤسّسات الأوروبية.
عبادة اللدن