المحامي أسامة العرب
إن الدفع بفرقة كاملة إلى شمال الضفة الغربية يشي بأن العملية التي بدأتها إسرائيل في المنطقة الأربعاء الماضي متواصلة وربما تمتد لمناطق أخرى، مع العلم أنها مدفوعة بتراجع احتمالات اندلاع حرب على الجبهة اللبنانية؛ ولو أن العمليات في الضفة لم تصل إلى نظيرتها في قطاع غزة رغم تصاعدها بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر الأول الماضي؛ ولكن معهد الحرب الأميركي أكد أن الضربات الجوية التي نفذها جيش الاحتلال في الضفة أخفق في تحجيم قدرات المقاومة.
ويتحجّج اليمين الإسرائيلي بأن التفجير الذي وقع في تل أبيب منتصف الشهر الجاري هو الذي دفع إسرائيل لشن العملية الجارية بالضفة خصوصاً بعد تهديد حركة المقاومة الإسلامية حماس، بتنفيذ عمليات مماثلة. ومع ذلك، فإننا نرى بأن المقاومة في الضفة لا تمتلك ما تمتلكه الفصائل في غزة، فضلًا عن صعوبة العمل العسكري في ظل السيطرة الإسرائيلية شبه الكاملة على الضفة.
وكل ذلك يشير لرغبة إسرائيلية بمنع حلّ الدولتين، لأن عمليات المقاومة في الضفة كانت محدودة رغم نوعيتها ولا يمكن أن تكون سببًا في شن عملية عسكرية بهذا الحجم، كما أن عمليات التفتيش التي يقوم بها الاحتلال كانت تحول دون تصاعد القوة المقاومة في الضفة، فلماذا قررت إسرائيل تهديدها مؤخرًا بجعلها غزة ثانية؟
ونستنتج من ذلك، أن ما يجري في شمال الضفة هو تطبيق عملي لرغبة اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يريد السيطرة على الضفة بشكل كامل، وليس ردة فعل على هجمات المقاومة التي لا تمثل تهديدًا كبيرًا بسبب محدودية قدراتها.
كما أن الهجمة الدائرة حاليًا في الضفة مدفوعة أيضاً بتراجع العمليات الكبيرة في غزة، إلى جانب انخفاض احتمالات اندلاع مواجهة مباشرة مع لبنان كما سبق وذكرنا. وبناءً عليه، تكون حكومة الاحتلال تتحرك لابتلاع الضفة ردًا على اعتراف بعض الدول الغربية بالدولة الفلسطينية المستقلة لقطع الطريق على إقامة هذه الدولة، ولهذا رأينا أن العمليات العسكرية كانت الأوسع منذ عام 2006، واستهدفت جنين وطولكرم وطوباس ومناطق غور الأرْدُن ومخيمات اللاجئين والعديد من المناطق الفلسطينية الأخرى، وقد أسفرت عن مقتل وإصابة وأسر المئات حتى الآن. وهذا ما يثير خَشْيَة تصاعد رد الفعل الفلسطيني الذي قد يتحول إلى مواجهة شاملة، بعدما باتت الضفة الغربية على وشك الانفجار، خصوصًا أن المداهمات الإسرائيلية الأخيرة تستخدم المئات من القوات الإسرائيلية المدعومة بطائرات الهليكوبتر والطائرات المسيرة وناقلات الجند المدرعة والجرافات.
هذا، وتواصل القوات الإسرائيلية تفتيش سيارات الإسعاف في شوارع الضفة الغربية وأمام المستشفيات الرئيسية، وتغلق الطرق المؤدية إليها لمنع المصابين من تلقي العلاج؛ لا بل حتى المساجد لم تنجُ من الانتهاكات، حيث ذكرت وسائل الإعلام أن القوات الإسرائيلية اغتالت في مسجد طولكرم «أبو شجاع»، قائد كتيبة المقاتلين في مخيم نور شمس المجاور للمدينة.
فيمَا قالت الأجنحة العسكرية لحركة حماس والجهاد الإسلامي وفتح في بيانات منفصلة، إن مقاوميها فجّروا قنابل استهدفت مركبات عسكرية إسرائيلية في جنين وطولكرم والفارعة، وهي بلدة في غور الأرْدُن، وهذا ما يدفع الضفة الغربية إلى نقطة الغليان، خاصة بعد تشجيع عدد من أعضاء الحكومة الإسرائيلية للمتطرفين المستوطنين من التعدي على المدنيين الفلسطينيين. وليس نحن فقط من نصرح بهمجية المؤسسة الأمنية في إسرائيل، بل حتى تلك المؤسسة أدانت نفسها مؤخرًا حينما قالت بأنها تشعر بالقلق من تأثير استفزازات وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، على الحرم القدسي، وبأنها تشعر وكأنه لا توجد شُرطة في إسرائيل، إشارة منها إلى بربرية قوات بن غفير العسكرية وتعدّيهم المستمر على الأسرى والمدنيين، وحتى على محاكم العدو نفسه، وإن كانت بالمناسبة تشكل بحد ذاتها قضاء على العدالة لا قضاء عدالة.
ونذكّر هنا، أن الهجمات المتكررة التي يشنّها المستوطنون المتطرفون على القرى الفلسطينية باتت تتضاعف، لأن المهاجمين يشعرون بأنهم يتمتعون بدعم من القِوَى الأمنية ومن ممثليهم في الائتلاف الحاكم، الذي عبّر الناطق باسمه، الذي هو وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في منشور على منصة إكس قائلًا: «هذه حرب بكل معنى الكلمة، ويجب أن ننتصر فيها، وأن نستخدم كل الوسائل اللازمة بما فيها، القتال العنيف، والسماح بإخلاء السكان من بلداتهم لمنع تعرضنا للضرر»؛ فيمَا أضاف رئيس حزب المعسكر الرسمي، بيني غانتس، في منشور على منصة إكس: «أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً، لقد حان الآن وقت الشمال».
وعمومًا، فمنذ بَدْء الحرب في غزة تم اعتقال آلاف الفلسطينيين في مداهمات بالضفة الغربية والقدس الشرقية، وتم قتل حوالي ألف من المقاومين والمدنيين. أما الإدارة المدنية في الضفة الغربية، التي تشير اليوم إلى النظام الذي ستفرضه إسرائيل لإدارة شؤون الفلسطينيين في المناطق المحتلة، فقد ازدادت الدعوات من قبل السياسيين الإسرائيليين اليمينيين لبسط سيطرتها على الضفة الغربية، بما في ذلك أن تكون خاضعة للسيطرة الإسرائيلية العسكرية الكاملة.
وهكذا، تمّ نسف اتفاق أوسلو، الذي وقع في 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والذي كان يهدف إلى إنشاء إطار لحلّ الدولتين وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث انتهى ذاك الاتفاق الموضوع أساسًا للحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي كان يجب أن يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة حقيقةً.
وإن عدنا لعوامل نسف اتفاق أوسلو، فنجدها التالية:
١ـ توسيع المستوطنات
إن إحدى العوامل الرئيسية التي نسفت اتفاق أوسلو هي استمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات في الضفة الغربية. حيث توسعت هذه المستوطنات بشكل كبير منذ توقيع الاتفاق، مما جعل إمكانية إنشاء دولة فلسطينية مستقلة صعبة جدًا.
٢- العنف الإسرائيلي
إنّ التصعيد المستمر للعنف من قبل القوات الإسرائيلية أدى إلى تآكل الثقة بين الجانبين، فالانتفاضات الفلسطينية، لاسيما الانتفاضة الثانية (2000-2005) جاءت كثورة على الظلم والطغيان، مما شكك في مدى صدقية الإسرائيلي بتنفيذ بنود اتفاق أوسلو.
٣- السياسات الإسرائيلية التعسفية
إنّ سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خاصة تلك التي قادتها الأحزاب اليمينية، ركّزت على تعزيز السيطرة على الضفة الغربية وضمّ مناطق واسعة منها، مما يتعارض بشكل مباشر مع روح اتفاق أوسلو، ويؤكد رغبة إسرائيل بالتنصّل منه.
٤ـ الانقسام الفلسطيني
إنّ الانقسام السياسي بين الفصائل الفلسطينية، خاصة بين حركتي فتح وحماس، أثر سلبًا على الوحدة الفلسطينية وأضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني، في مواجهة وحدة موقف العدو.
٥- التغييرات الجيوسياسية
إنّ التغيرات في المنطقة والعالم، بما في ذلك الدعم الأميركي غير المشروط للسياسات الإسرائيلية في ظل حكم ترامب، واعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ورغبته اليوم كمرشح رئاسي بتوسيع حدود إسرائيل لأنه بات يراها صغيرة على الخريطة على حدّ زعمه، كله عزّز من موقف حكومة إسرائيل ضد تنفيذ اتفاق أوسلو.
٦- السياسات الإسرائيلية والإدارة المدنية
في السنوات الأخيرة، شهدت السياسة الإسرائيلية تحولات كبيرة نحو اليمين المتطرف، حيث دعا بعض السياسيين إلى ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وفرض إدارة مدنية إسرائيلية على الفلسطينيين فيها، ووافقت على ذلك جميع القِوَى السياسية اليهودية الأخرى في الكنيست الإسرائيلي، وهذا ما عزّز من الهيمنة الإسرائيلية ونَسف أي أمل في تحقيق حل الدولتين.
وعلى ذلك، إن النتيجة المباشرة لنسف اتفاق أوسلو هي تصاعد العنف وزيادة الحروب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ومع تراجع إمكانية التوصّل إلى حلّ سلمي دائم، يظل الوضع في الضفة الغربية وغزة متوترًا ومعرضًا لمزيد من التصعيد. أما الإدارة المدنية المقترحة فتعدّ محاولة لإعادة تشكيل السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة دون تقديم أي تنازلات حقيقية للفلسطينيين، مما يعمّق من الأزمة ويزيد من معاناة السكان الفلسطينيين.
وها قد نسف الصهاينة اتفاق أوسلو اليوم، بعدما سنّوا قانونهم الشيطاني بمنع الاعتراف بأي دولة فلسطينية مستقلة، وعلا صوت بنيامينهم النتنياهو قائلًا لن نقبل بدولة فتحستان ولا حماستان، ولا بأي دولة للفلسطينيين، وماذا يخبئ بعد ذلك هؤلاء المجرمون للعرب والمسلمين، هل ينسفون غدًا اتفاقية وادي عربة أو كامب دايفيد وغيرها من اتفاقات السلام، التي لطالما عارضناها لأنها فسخت الوحدة العربية عن بعضها البعض؛ أم هل يقيمون كنيسهم اليهودي في حرم المسجد الأقصى، أم هل يهدمون مسرى الرسول وقبلة المسلمين الأولى ويبنون هيكلهم المزعوم على أنقاضه، أم ماذا يحيكون من وراء ظهورنا؟ ونكتفي بالقول: «فو الله وكأننا نعيش الآن حقبة بني قُنيقاع وبني النّضير وبني قُريظة الذين تكالبوا على الرسول وأهل بيته والصحابة الكرام، بعدما آمَنهم وعاهدهم صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة المنورة»، متذكرين قوله تعالى في سورة المائدة: «فبما نقضِهم ميثاقهم، لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكّروا به، ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم إلا قليلًا منهم» صدق الله العلي العظيم.
المحامي أسامة العرب