بقلم نهلا ناصر الدين
«أساس ميديا»
بعد عام على فتح جبهة مساندة غزّة من جنوب لبنان، تخطّت لعبة الموت التي أقحمنا أنفسنا فيها كلّ الخطوط الحمر، وآخرها ضرب بيروت “بالنووي”! ربّما يجد البعض في هذه الكلمة تهويلاً لغويّاً يتلاعب بأعصاب اللبنانيين، ويبثّ إليهم إشعارات مبالغاً فيها، لكنّ للعلم كلاماً آخر…
حذّر مجلس نقابة الكيميائيّين في لبنان في بيان له من “آثار استنشاق غبار القصف الذي تتعرَّض له ضاحية بيروت الجنوبية وباقي المناطق اللبنانية”، مؤكّداً أنّ حجم الدمار واختراق المباني والأرض لعشرات الأمتار “دليل على استخدام القنابل التي تحتوي على اليورانيوم المُنضَّب (Depleted Uranium) الّذي يتمتَّع بقوّة اختراق هائلة”. وأضاف أنّ “استخدام هذه الأنواع من الأسلحة المحرّمة دولياً، وخصوصاً في العاصمة بيروت المكتظَّة بالسكان، يؤدّي إلى دمار هائل، كما أنّ غبارها يتسبَّب بالعديد من الأمراض، خاصَّة عند استنشاقه”. وطالب الدولة اللبنانية برفع دعوى لدى مجلس الأمن ضدّ الانتهاكات التي تُمارس على أرضنا ومحاولة القتل الجماعي للمدنيين الأبرياء في لبنان، متمنّياً على المواطنين “عدم الاقتراب من المناطق التي تتعرّض لهذا العدوان والبقاء على مسافة تتجاوز كيلومترين منها. أمّا المرغمون على الاقتراب من هذه المناطق فعليهم الالتزام باللباس الواقي من الغبار ووضع الكمّامات المخصّصة للموادّ الكيميائيّة”.
حرب بيانات
في وقت كان ينتظر فيه اللبنانيون تجاوب الدولة اللبنانية مع البيان التحذيري وأخذه على محمل الجدّ والتحقيق، أكّد المكتب الإعلامي في وزارة الصحّة العامة في بيان له أنّه بقصد التحقّق تمّ التواصل في هذا الشأن مع الهيئة اللبنانية للطاقة الذرّية، وأكّد مدير الهيئة الدكتور بلال نصولي أن ليس من أدلّة على استخدام اليورانيوم في الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ لبنان حتى الساعة، وأنّ بياناً علمياً سيصدر في هذا الشأن في وقت لاحق، علماً بأنّ الهيئة هي صاحبة الاختصاص والصلاحية في هذا الشأن وتقوم بالتنسيق مع الجهات الرسمية والدولية المعنية ليبنى على الشيء مقتضاه. وأضاف بيان “الصحّة”: “وبناء عليه، شدّدت وزارة الصحة العامّة على توخّي الدقّة في تبنّي معلومات علمية والتسرع في نشرها من دون التحقّق من صحّتها”.
تواصل “أساس” مع نقيب الكيميائيين في لبنان الدكتور جهاد عبود، وهو التواصل الذي كان يجب أن يحصل بين الطرفين (الصحة والنقابة) للتحقّق الأوّلي من تداعيات وخلفيات هذا البيان، فآخر ما ينتظره اللبنانيون في هذا الظرف هو حرب البيانات والبيانات المضادّة. إذاً الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية نفت استخدام اليورانيوم المنضّب في لبنان، فما هي المعطيات الموجودة في جعبة نقابة الكيميائيين؟ وعلى ماذا اعتمدوا للوصول إلى هذه النتيجة المرعبة؟
القنبلة “الوحيدة”
بدايةً، رفض نقيب الكيميائيين جهاد عبود الردّ على بيان وزارة الصحة، واكتفى بالتعليق: “نحن نتحدّث بالعلم ونحن أهل الاختصاص ولدينا معطيات شرحناها”، نطالب عبود بمزيد من الشرح لإيصال الفكرة للّبنانيين بصورة أوضح، فيؤكّد لـ”أساس” أنّ النقابة اعتمدت في بيانها على ثلاث حجج هي:
– أولاً: تحاليل أوّلية أكّدت ذلك.
– ثانياً: ثبت في تاريخ الصراع اللبناني الإسرائيلي أنّ إسرائيل استخدمت قذائف تحتوي على يورانيوم منضّب في حرب 2006، وهذا مثبت علمياً وتاريخياً.
– ثالثاً: درسنا آثار هذه القنابل التدميرية وطريقة التدمير التي تعمل بها.
أوضح عبود التفاصيل، فمثلاً عند استشهاد الشهيد رفيق الحريري، قُدّرت الحفرة الناجمة عن الانفجار وقتها بـ 15 متراً وبقطر خمسين متراً، وهذه تُسمّى قنبلة جهنّمية لأنّها تحدث أثراً كبيراً وتنزل في العمق كما في العرض ويتمّ استعمالها لتدمير الأنفاق في الجبال. أمّا القنبلة التي استخدمت لاغتيال الأمين العام للحزب، ففريق النقابة قام بدراستها ميدانياً، وكما تظهر آثار الدمار على أرض الواقع، وبحسب الصور والفيديوهات لحظة الانفجار وما بعده، فإنّ طريقة القصف أحدثت حفرة بقطر مترين وبعمق حوالي 12 متراً، وتجاوزت أحياناً 30 متراً تحت الأرض. وهو ما يعني أنّ قنبلة اخترقت التحصينات بقطر صغير وبعمق كبير جداً وانفجرت تحت الأرض، وهناك فيديوهات تثبت أنّ الانفجار حصل من تحت الأرض إلى فوقها لأنّ العبّارات وسط الطريق كانت تنقل مشهد الانفجار تحت الأرض أيضاً.
بعد الدراسة والتحليل العميقين، تبيّن للنقابة أنّ قنبلة وحيدة تحدث هذا الضرر بهذه الطريقة وتتحمّل كلّ هذا الضغط، وهي التي تحتوي على رأس فولاذي من اليورانيوم المنضّب، ومهمّتها أن تضرب التحصينات كما يلي:
بداية ينزل الصاروخ بسرعة هائلة ويكون رأسه من اليورانيوم المنضّب، أي اليورانيوم غير المشعّ، لأنّه لو كان رأسه من غير اليوارنيوم لكان انفجر عند ارتطامه بالأرض، لكنّ اليورانيوم أقوى من الفولاذ بثلاث مرّات فتخترق القنبلة الأرض طابقاً واثنين وخمسة طوابق تحت الأرض، وتكمل طريقها لتنفجر تحت الأرض، وليس فوقها.
أمّا الغبار الذي يتصاعد من جرّاء هذه القنابل المحرّمة دولياً، والمشبع بذرّات اليورانيوم، فهو بلون أحمر لأنّه يخرج من باطن الأرض، حيث لون التراب في المناطق المستهدفة أحمر، ولذلك يكون الانفجار باللون الأحمر لا الأبيض والرمادي مثل الانفجارات التي تستهدف البنايات فوق الأرض (الأبيض يأتي من إسمنت البنايات، والرمادي من الحرائق).
تسميم الأجيال المقبلة
أكّدت المعطيات على الأرض استخدام اليورانيوم المُنضَّب (Depleted Uranium)، وتأثيراته تطال بشكل مباشر أهالي المناطق المتفجّرة، لكن هل يمكن للريح أن تحمل معها ذرّات اليورانيوم إلى المناطق المجاورة للضاحية الجنوبية لبيروت؟
أكّد النقيب عبود أنّ اتجاه الرياح لا يؤثّر سلباً على المناطق المجاورة، والدرسات العلمية تثبت أنّ وزن “الثقل النوعي” لليورانيوم يصعب حمله لمسافات بعيدة. فـ”كيلو اليورانيوم الواحد حجمه يساوي ربع كيلو الحديد، وهو ما يعني أنّ الكثافة عالية جداً، وبالتالي معدن اليورانيوم ثقيل جدّاً والغبار الناجم عنه ثقيل أيضاً، ولذا حين يتطاير لحظة الانفجار وتتناثر ذرّاته مع الغبار الذي يحمله في الجوّ يذهب مسافة 2 كيلومتر كحدّ أقصى حتى لو كانت السرعة عالية والجزيئات أو الجسيمات محمّلة ومشبعة وخفيفة وغير رطبة. لكنّ التأثيرات السلبية قد تكون أوسع وأشمل وأكثر استدامة مع الوقت، فاستنشاق جزيئات اليورانيوم السامّة يؤدّي إلى تلف في الرئات والكلى ويسبّب أمراضاً سرطانية، “ونحن نتحدّث عن معدن ثقيل جداً، وفي الكيمياء لا يختفي المعدن بل يتحوّل إلى ملح مع مرور الزمن ويبقى موجوداً في الطبيعة، وهناك احتمال كبير لتسرّبه إلى المياه الجوفية، وإذا ما شربنا نحن من هذه المياه سيشرب منها أولادنا، ومهما كانت نسبها قليلة فتأثيراتها كبيرة على الصحّة، وكافية لتسميم البشر والتربة والمياه”.
ورقة ضغط دوليّة
جدّد عبود دعوته للدولة إلى التوجّه إلى رفع دعوى ضدّ إسرائيل في مجلس الأمن في هذا الخصوص، ليعرف العالم أنّ إسرائيل لم تكتفِ بأذيّة الناس الموجودين في محيط التفجيرات، والمنتمين إلى فئات متنوّعة، فهم صحافيون ومسعفون وغيرهم، بل هي تؤذي الأجيال المقبلة. وأكّد أنّه مستعدّ لوضع خبرات النقابة في هذا الإطار، وهي التي سبق لها أن شاركت عبر اختصاصيّيها في لجان تحقيق دولية، ومنها لجنة بروكسل التي حقّقت في سلاح الدمار الشامل في العراق.
ردّاً على بيان وزارة الصحة، علّق خبير اختصاصي في حديثه لـ”أساس” ممتعضاً، وأكّد أنّ “نقابة الكيميائيين كانت علمية في بيانها، وأمّا بيان “الصحّة” فلم يكن على القدر العلمي المرتجى، والمسؤولية تتطلّب أوّلاً من الوزارة التواصل مع مجلس نقابة الكيميائيين أو استدعاء النقيب والبحث الجدّي والعلمي في المعطيات الموجودة بين يدي النقابة والتحقّق منها”. ولم يتردّد المصدر في وضع ملاحظات على المرجع الذي اعتمدت عليه الوزارة، فهو اختصاصي إشعاعات ذرّية، في حين لم يتطرّق بيان الكيميائيين إلى الإشعاعات الذرّية، وهذه “سقطة أخرى” في بيان وزارة الصحة، متمنّياً لو أنّ الدولة تعاطت بشكل مختلف مع هذا الموضوع، لا سيما أنّ ذلك يمكن أن يشكّل ورقة ضغط في المحافل الدولية لإيقاف الحرب على لبنان، وختم ساخراً: “نسأل وزير الصحة حتى لو لم يثبت استعمال اليورانيوم في القذائف الإسرائيلية على بيروت، لكن ما هي الموادّ التي تطايرت لحظة انفجار هذه القنابل؟ هل هي ماء زهر أم ماء ورد أم موادّ كيميائية تسمّم البشر والحجر؟!”.
نهلا ناصر الدين