بقلم خالد البواب
«أساس ميديا»
على الرغم من أنّ سوريا تبدو غائبة عن مشهد “وحدة الساحات” وخارج معيار “حرب الإسناد” الإيرانية لقطاع غزة، إلا أنّ دمشق تبقى في عين كلّ هذه التطوّرات والتحوّلات. خَبر النظام الأسديّ السوري الكثير من المنحدرات والمطبّات، وتعايش مع أزمات كثيرة في المنطقة وعلى الأراضي السورية ونجح في تجاوزها منذ أيام حافظ الأسد إلى أيّام بشار الأسد الذي يمكنه أن يكون أحد أكثر الحكّام المحظوظين على مستوى العالم. أمام أمواج عاتية كثيرة نجحت “دمشق الأسديّة” في الانحناء أمامها وتجاوز العواصف، حتى في حياديّتها تبقى سوريا في عين العاصفة، كمقرّ أو مستقرّ أو ممرّ لتقاطعات ومتغيّرات.
منذ الأيّام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، كان الموقف السوري واضحاً في اختيار الحياد وعدم الانخراط في هذه الحرب التي كانت رؤية النظام السوري ومعلوماته مؤكّدة حول اتّساعها وشموليّتها، وربّما نظر إليها كفرصة لتحرّره من أعباء كثيرة أهمّها الأعباء التي فرضها وجود الحزب في الداخل السوري، والتهديد الإيراني الدائم والتلويح بمسألة سداد الديون وغيرها.
ساهمت التهديدات الإسرائيلية في تعزيز “الحياد الدمشقيّ”، خصوصاً أنّ التهديدات وصلت إلى حدود التلويح بإسقاط النظام في حال عمل على دعم الحزب وتوفير الأسلحة له. جرت محاولات كثيرة من قبل إيران وحلفائها لإشراك سوريا في هذه الحرب، إمّا عبر قصف وتنفيذ عمليّات وإطلاق مسيّرات من الجولان، علماً أنّه بعد كلّ عملية كانت تنقل رسائل عبر الروس إلى المعنيّين بأنّ سوريا لا علاقة لها ولا توافق، وإمّا من خلال استخدام الأراضي السورية لتمرير الأسلحة للحزب.
حاول النظام السوري الموازنة بين موقفين متناقضين:
1- الأوّل هو عدم المشاركة في الحرب، والبقاء على تواصل متعزّز مع روسيا والدول العربية، إضافة إلى فتح قنوات غير مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.
2- الثاني هو إبقاء خطّ الإمداد مفتوحاً وترك هامش العلاقة واسعاً مع إيران والحزب وتوفير الأسلحة للحزب وإبقاء أجزاء من الجغرافيا السورية “صديقة” لطهران وحلفائها.
ولكن مع إسرائيل لا مجال للمواقف الرمادية في هذه المرحلة، وبعد معلومات عن إدخال أسلحة جديدة للحزب عبر سوريا، خرج تهديد جديد للنظام على لسان الحليف الجديد لبنيامين نتنياهو جدعون ساعر، الذي طالب بإسقاط النظام في حال لم يلتزم بسياسة قطع خطّ الإمداد عن الحزب.
مرحلة جديدة من التّحوّلات
مرحلة جديدة من التحوّلات يتعايش معها النظام السوري، كان بدأها حافظ الأسد في عام 1973 إثر التماهي مع مشروع هنري كيسنجر، ثمّ تماهى مع “الثورة الإسلامية” في إيران ورفع راية فلسطين والعروبة إثر اتفاقية كامب ديفيد. استمرّ في رفع هذه الراية والتداخل والتدخّل في لبنان وفي عمل منظمة التحرير الفلسطينية إلى لحظة تحوّل ثالث، مع سقوط الاتحاد السوفيتي والالتفات غرباً مجدّداً عبر الانضمام إلى التحالف الدولي لإخراج العراق من الكويت، وتعايش مع هذه الوقائع الجديدة التي منحته وصاية في لبنان، ومفاوضات مع إسرائيل انطلقت مع مؤتمر مدريد للسلام واستمرّت إلى ما قبل وفاة حافظ الأسد. كانت سوريا في حينها بحالة موازنة ما بين العرب من جهة وإيران من جهة أخرى.
هي المحاولة نفسها التي يسعى بشار الأسد إلى تكرارها، لكنّ كلّ الظروف قد تغيّرت في ظلّ الحرب الإسرائيلية على إيران التي بدأت بضرب أذرع إيران وحلفائها في المنطقة، ولذلك سيكون على الأسد أن يختار بين أحد التحالفين. وحتى الآن لا يزال يفضّل التماهي مع الموقف العربي، على الرغم من عدم قدرته الكاملة على الخروج من عباءة إيران.
ما يجري حالياً حاول الأسد أن ينتهجه سابقاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعند اتفاقية “السين- السين” التي برزت معها معادلة إخراج الأسد من الحضن الإيراني، إلا أنّه اختار الانقلاب على العرب أو نجح الإيرانيون في تطويعه لينقلب.
مع بداية الثورة السورية اتّجه الأسد بشكل كامل إلى إيران طالباً النجدة والمساعدة على عدم إسقاط نظامه، وهو مسار استكملته روسيا عندما وصلت إيران إلى حالة العجز عن أداء المهمّة. بعدما ثبّت النظام بقاءه ولم يعد بحاجة إلى المساعدة العسكرية، بدأ البحث في خيارات الانفتاح على الدول العربية والتقرّب منها في مسار متحوّل جديد يتعزّز أكثر منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في المنطقة.
تقف سوريا الآن بين منزلتيْن، وعلى الرغم من كلّ محاولاتها للوقوف على الحياد التي لن تجدي نفعاً، خصوصاً أنّ جهات دولية ترى أنّ هذه الحرب ستعيد رسم كلّ التوازنات في المنطقة، وأنّ الحرب العسكرية على الحزب وحدها لا تكفي، بل لا بدّ لها أن تكون مرتبطة بمسار سياسي كبير يغيّر التوازنات السياسية وكلّ التركيبة اللبنانية، ويمنع الحزب من إعادة تشكيل نفسه عسكرياً، وهذا لا يتحقّق من دون قطع طرق الإمداد من سوريا بشكل مضمون، وهو ما سيكون بحاجة إلى خيار من اثنيْن:
1- إمّا إحداث تغيير كبير في التركيبة السياسية السورية أو في بنية النظام.
2- وإمّا إحداث تعديل جوهري يبقي بشار الأسد على أن يلتزم بما هو مطلوب منه مع منح صلاحيات واسعة للحكومة السورية التي سيكون من واجبها القيام بضبط كلّ هذه المعابر.
بالنسبة إلى القراءة الدولية، فإنّ سوريا ليست بمنأى عن كلّ التحوّلات التي تشهدها المنطقة وإن لم تكن منخرطة بالحرب.
خالد البواب