اللاذقية: شرك الانتقام والتّوجّس ومآلات العنف

بقلم نديم قطيش

«أساس ميديا»

الاقتتال الذي شهدته مدينة اللاذقية، شمال غربي سوريا، وبعض قرى ريفها، ليس فاصلاً دمويّاً جديداً في سيرة المحنة السورية. بل إنّه اختبارٌ حاسمٌ للكيان السياسي السوري الناشئ، وهو بالكاد يلتقط أنفاسه بعد سقوط نظام الأسدين، واختبار أشدّ للأقلّيّات وقدرتها على تحديث موصلات انتمائها للهويّة السورية الجديدة.

 كان لا بدّ للسلطة الجديدة أن تعترف، وحسناً فعلت ولو على التباس وتهوين، بأنّ “تجاوزات” وقعت، بعضها موثّق بالصوت والصورة، وبعضها الآخر لا يزال قيد التأويل والتحقيق.

تُنسب الفظائع إلى اندفاع “أولياء الدم” الساعين إلى الاقتصاص من إرث الأسدين، من بعض أهل حاضنة نظامهما وعاصمتهما الاجتماعية والمذهبية، أي الساحل المُكنّى بالعلويّ على الرغم من اختلاط نسيجه. وعلى محمل آخر، تُنسب إلى كيانات متطرّفة في صلب توليفة النظام الجديد، وجدت على هوامش عمليّة فرض القانون، فرصةً لتفريغ مكنونات العنف الجهادي التكفيري الذي تستبطنه.

كما تُحمَل سياقات الأحداث على مناورات استخبارية إيرانية غايتها جرّ النظام الجديد إلى شرك الحرب الأهلية المذهبية، وإعادة تدوير الفوضى وتوظيفها أداةً لتعطيل استقرار السلطة الناشئة. وليس هذا بالاحتمال الذي تجوز الاستهانة به، ولا بإيران التي، وإن خسرت نظام الأسد، لم تفقد بعدُ أدواتها القادرة على تفجير النزاعات المذهبية في قلب الجغرافيا الأكثر حساسية، أي الساحل السوري، بهدف إجهاض التجربة السياسية الناشئة.

مسؤوليّة السّلطة: ترقية مشروع الدّولة

بيد أنّ هذه التأويلات، على وجاهتها، لا تعفي السلطة من واجبها الأوّل: إحكام القبضة على المشهد، لا من بوّابة الأمن فقط، بل من باب أوسع، هو ترقية مشروع الدولة الناشئة إلى سورية جامعة لكلّ السوريين ومانعة لاستئناف الحروب الأهلية السوريّة المديدة.

لا مجال لتنحية حقيقة صارخة مفادها أنّ الطائفية ليست وهماً في سوريا اليوم، ولا تجدر معاملتها كمحض إفراز مؤقّت لأزمة أمنيّة. في اللاذقية، قوات حكومية يغلب عليها الطابع السنّيّ عامّة والأسلمة الجهادية على بعض مكوّناتها وأنصارها، تقاتل معارضة مسلّحة ذات أغلبية علويّة موصولة بنظام بائد فاضت مذهبيّته حتى أغرقت البلاد وأهلها، في عقد مديد من الاقتتال الأهلي.

مؤدّى ذلك أنّ في طيّات أحداث اللاذقية، عمليّة إعادة ضبط عنيفة لخريطة الولاءات، تتوسّل طرد فئات وإخضاع أخرى، على النحو الذي يعيد إشعال ما يفترض أنّه ينطفئ.

والحال، ما لم تبادر سوريا الناشئة إلى استيلاد معانٍ ومبانٍ جامعةٍ لهويّة سوريّة متماسكة، ستستأنف الحروب المذهبية سِيرتها الأولى. وهذه المرّة في ظلّ حكم لم يستقرّ بعدُ على شرعيّةٍ ثابتة، ولا رسخت له في الاستقرار قدم، ولا تَحقَّق له القبول الداخلي الثابت، ولا نجا من التدقيق الإقليمي والدولي وموازينه المتقلّبة التي لا يُكَفُّ عن إعادة تركيبها وفق مصالح متغيّرة.

ولئن كان تغليظ العصا، لازماً في لحظات الانتقال الأولى، فإنّ إطالة أمدها وعزلها عن مشروع سياسي واجتماعي مقنع ومطمئن للقلقين والمتوجّسين، وتوسّلها وحدها بديلاً سهلاً وسريعاً عن صعاب المسارات التصالحيّة البطيئة، لا يعِدان إلّا بالاحتقان المولِّد للعنف.

تتفاقم أعطال الهويّة السوريّة، ويشتدّ ارتباك إعادة توليفها، تحت وطأة ديناميّات إقليمية شرسة، تسعى إلى وسم مخرجات المشهد السوري بطابع يراعي حساباتها ومصالحها، في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.

الحرس السّوريّ لن يغادر المسرح السّوريّ

قبل أيام فقط، خرج نائب رئيس مجلس الشورى الإسلامي في إيران، حميد رضا حاجي بابائي، ليؤكّد أنّ “المقاومة لم تُهزم، وستعود قريباً”، إيذاناً بأنّ الحرس الثوري الإيراني لا ينوي مغادرة المسرح السوري بسهولة. وبعد أحداث اللاذقية شرعت الميديا الإيرانية في استخدام تسميات “قوّات المقاومة”، للتدليل على فلول نظام الأسد، فيما وُسمت القوات الحكومية الجديدة بأنّها “عناصر الجولاني”، في استدعاء مدروس لسرديّات الحرب الأهلية، وإعادة توزيع مواقع اللاعبين وإسقاط خطوط تماسّ انقضّت على الصراع الحالي.

هذا الإصرار على التدخّل الإقليمي في سوريا، وعلى طبع مآلاتها ببصمات خارجية، يفرض على السلطة الناشئة، إن هي أرادت الحفاظ على وحدة البلاد، أن تبادر بسرعة وحسم إلى إجراءات تعيد ضبط التوازن الاجتماعي والسياسي، قبل أن يتحوّل الاضطراب الراهن إلى مأزق بنيوي للنظام الجديد.

الكلام على الاستقرار الطويل الأمد والمصالحة يظلّ لغواً ما لم يُترجم إلى ضمانات فعليّة لحماية كلّ السوريين، وإلى كبحٍ واعٍ لأيّ نزعة انتقامية تتلطّى برداء العدالة، كما أفصحت الإعدامات الميدانية البشعة أخيراً.

ليس في تمثيل العلويين والدروز والكرد والمسيحيين وغيرهم من مكوّنات المجتمع السوري، داخل مؤسّسات الحكم الجديد ترفٌ سياسي، أو مناورة تهدف إلى احتواء لحظة عابرة، بل هو ركيزة استراتيجية تحول دون أن يجد أعداء سوريا، في الغضب المكتوم والإقصاء، وقوداً لإحياء صراعات لم تنصرم.

الحاجة إلى مقاربة جديدة

ما جرى في اللاذقية ليس تفصيلاً عابراً، بل هو نذير مبكر بأنّ المشروع السياسي السوري الجديد يواجه امتحاناً صعباً. إذا لم يُدرك من يقبض على السلطة أنّ هذه المرحلة تتطلّب مقاربةً تتجاوز القوّة إلى بناء شرعيةٍ سياسية متماسكة، فإنّ اللاذقية قد لا تكون سوى البداية. وما نراه اليوم قد يكون الخطوة الأولى في سلسلة من الأحداث قد تعيد سوريا إلى نقطة الصفر.

لا يفوت الحريص على سوريا، أن ليس على السلطة وحدها عبء إعادة تركيب المشهد السياسي على أسس جديدة، فالأقلّيات، بوصفها شريكاً في التاريخ والمصير، معنيّة بإنتاج خطاب يقطع مع موروث الانعزال والتوجّس، ويتجاوز وهم إمكانية إعادة إنتاج ماضٍ انقضى، ولم يعد قابلاً للاستعادة إلّا ككابوس سياسي وأمنيّ. ليس المطلوب تصحيحاً لغويّاً في صياغة المطالب وحسب، بل إعادة تعريف موقع هذه الجماعات داخل سوريا الجديدة، لا بوصفها كياناً متحصّناً في ذاته، بل باعتبارها جزءاً من نسيج اجتماعي أوسع، تُعاد صياغة موصلاته السياسية والاقتصادية بالهويّة السورية، على نحو لا يقبل بالاستثناءات المغلقة.

لئن صحّ أنّ العدالة الانتقامية، مهما بدت إغراءً لمن اكتوى بنار الاستبداد، ليست إلّا وصفة أكيدة للانهيار، فإنّ الأصحّ أيضاً أنه في لحظات الانتقال لا يكون التمترس خلف الهويّات الضيّقة حصناً، بل مدخل إلى عزلة لن تزداد إلّا قسوةً وصقيعاً.

نديم قطيش