العملات المشفرة: ورطة ترامب أم فرصته؟

الرئيس الأميركي مؤيّد للعملات المشفرة استجابة لاتجاهات السوق

تَحَوَلَ موقف الرئيس ترامب من العملات المشفرة من النقيض إلى النقيض، ففي العام 2019 قال إن هذه العملات “تسهل الأنشطة غير المشروعة”، وإبان حملتهِ الانتخابية وقبل موعد الانتخابات حدث التحول، ولعل ذلك يعود أساساً إلى سجية ترامب الباحثة عن “الصفقة”، لتتكيف معها تبعاً للمصلحة وللمكاسب، من مطلق “اللي تكسب به، إلعب به!” لينتهي به الأمر مؤخراً على أنه مؤيد للعملات المشفرة، استجابةً لاتجاهات السوق وللمكاسب السياسية، فكيف ستكون خارطة طريقه، وهل سيتمكن من العمل مفرداً ليأخذ العملات المشفرة من “الرصيف” إلى المنصة الرئيسية؟ وهل سيتمكن أن يفعل ذلك متجاوزاً أصحاب المصلحة الأشداء من أرباب القطاع المالي التقليدي؟ وإن تجاوز هؤلاء ولن يستطيع، فهل بوسعه تجاوز المنظمات المالية العالمية صاحب النفوذ؟

تحول ترامب إلى التشفير

وطلباً للتحديد، يمكن إرجاع ذلك التحول لعدة أسباب (أو مصالح) من المفيد تناولها سريعاً، حتى تلقي الضوء على التوجهات المحتملة لهذه الصناعة خلال الولاية الثانية للسيد ترامب والتبعات الاقتصادية والمالية لذلك:

(1) استقطاب أصوات الناخبين الشباب المهتمين بالعملات المشفرة والمحبطين من النظام المالي التقليدي السائد الذي يدار من قبل البنوك المركزية.

(2) تمويل حملته الانتخابية من قبل كبار المستثمرين في العملات وفي صناعة التشفير، فقد حصلت حملته على أموال وبنت علاقات مع المؤثرين في صناعة التشفير، وليس مستبعداً أن أشخاصاً مثل إلون ماسك، المتحمس للعملات المشفرة، قد أقنع الرئيس المنتخب ترامب بجدوى تبنيه للعملات المشفرة استراتيجياً وليس للمدى القصير. ولابد هنا من التذكير أن إلون ماسك كان مناصراً قديماً للعملات المشفرة حيث ساهم تبني شركته (تيسلا) في العام 2021 بأن قفز سعر البتكوين إلى 69 ألف دولار، بعد أن كان قد انهار إبان جائحة كوفيد إلى 4 آلاف دولار في أوج الجائحة (مارس 2020).

(3) المكاسب المالية التي حققها (11 مليون دولار حتى الآن) جعلت ترامب يتراجع عن نعوتهِ للعملات المشفرة بأنها ليست نقوداً وأنها تستند إلى فراغ (Thin Air)، فحالياً يستثمر في عملة “إثيريوم” ( Ethereum ) وأصدر عدة مجموعات من الرموز غير قابلة للاستبدال( NFT ) الخاصة في لقطات متعددة وهو يلعب جولف ويلبس قبعة كاوبوي ومجموعة أخرى تسمى مجموعة “أمريكا أولاً”، ما يؤكد اهتمامه الشخصي بدخول عالم التشفير ليس فقط كمستثمر بل كمصدر للرموز. وما يُثبت اهتمامه بتحقيق مكاسب شخصية من إصدار الرموز مفاجأة العيار الثقيل جداً التي أطلقها يوم 18 يناير،قبل يومين من استلامه مقاليد السلطة، بإصدار عملة مشفرة باسم $TRUMP””، التي حظيت بإقبال كبير، فقد كانت قيمتها عند الطرح 18 سنتاً، وحالياً (عند كتابة هذه الأسطر 19 يناير) 36 دولاراً أمريكياً. ولهذا التصرف دوافع لتحقيق مكاسب شخصية مالية وتحيز للعملات المشفرة من رئيس دولة عملتها هي عملة الاحتياط الرئيسة في العالم وتحمل ديوناً مقومة بعملتها الوطنية (الدولار الأمريكي) بقيمة 36 ترليون دولار أي ما يعادل 122 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وقرابة 33 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، وفي ذلك تعارض للمصالح وتعريض حصانة مقعد الرئاسة بحكم أن شاغلها له اهتمامات تجارية قد تؤدي إلى تحيزات قد تؤثر على استقلالية قرار السلطة التنفيذية ليكون مؤشره الصالح العام.

(4) وعود انتخابية لوضع بيئة تنظيمية محابية للتشفير، منها وعده بجعل الولايات المتحدة “عاصمة التشفير على هذا الكوكب”، ولعل خلفية ذلك الارتفاع الكبير الذي شهدته العملات المشفرة خلال العام 2023 مدفوعةً بموافقة هيئة الأوراق المالية الأمريكية (SEC) على تأسيس صناديق استثمارية (EFTs) في يناير 2024، ما أدى لارتفاع في سعر البتكوين نتيجة لزيادة الطلب وسهولة الاستثمار فيها من خلال منتجات أقل خطورةً تقدمها مؤسسات مالية تقليدية رصينة، وليس أدل على ذلك من أن تلك الصناديق استقطبت مليارات الدولارات خلال أسبوع من اطلاقها. هذا التطور بين لترامب ومستشاريه أن هناك فرصة ذهبية لبناء إطار تنظيمي متكامل لاستيعاب أنشطة صناعة التشفير.

(5) توجه مالي جديد بأن تأخذ أمريكا زمام المبادرة بإلغاء القيود على العملات المشفرة وبناء احتياطي اتحادي من “البتكوين” وتبني أنشطة التعدين، مما سيمكن الرئيس الجديد من استقطاب ليس فقط الدائرة الضيقة المهتمة بالتشفير بل كذلك الممولين والبنوك الاستثمارية والمستثمرين الأجانب وأرباب التقنية والابتكار.

مستقبل التشفير مع ترامب الرئيس

ليس من المبالغة القول إن صناعة التشفير محاربة وتقبع خارج سياج قطاع الخدمات المالية التقليدية، وأن “حرباً” ضروساً تدور لترويضها ومن ثم إدخالها للقفص، فأحد الفروق الجوهرية بين العملات التقليدية والعملات المشفرة هو أن المشفرة تتجاوز البنوك التجارية والمركزية ولا تخضع لسياساتها النقدية. لكن موقف القطاع المصرفي من العملات المشفرة ليس جامداً بل يلاحق الفرصة ملاحقة لصيقة وبتحفظ، فقد تطور موقف شركات الخدمات المالية التقليدية والبنوك التجارية الكبرى من الرفض إلى التوجس إلى الانخراط المقنن إلى الاعتراف بالفوائد المحتملة والتحديات التي تفرضها العملات المشفرة، لكن موقف المؤسسات المالية يتفاوت إذ لا يزال هناك تنوع كبير في كيفية تعامل المؤسسات المختلفة مع هذا المجال ، حيث يكون بعضها أكثر استباقية من البعض الآخر، ولهذا التفاوت تبعات في كيفية إيجاد أرضية واحدة لتنظيم نشاط العملات المشفرة تقبل له تلك المؤسسات ولا تعتبره مهدداً لنشاطها أو مزايا التنافسية وحصتها من سوق الخدمات المالية.

ومن زاوية أوسع فالقضية عالمية تتجاوز حدود الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم -بما في ذلك الولايات المتحدة- منقسم إلى ثلاث مجموعات: من يمنع التداول في العملات المشفرة، ومن يسمح بتداولها ويسمح كذلك باستخدامها كأداة سداد ووفاء (بأن تُعَدُ نقوداً)، والمجموعة الأكبر هي لابد من الإقرار أن إبقاء صناعة التشفير خارج سياج قطاع الخدمات المالية خيارٌ اتخذته العديد من الحكومات لكنه غير قابل للاستدامة، فصناعة التشفير ليست قادمة بل هل قائمة لكنها محاربة من قبل صناعة الخدمات المالية التقليدية، ولا تلقى حماساً من البنوك المركزية المعروف عنها تحيزها الهيكلي للتحفظ والتحوط والاستقلال وأن تأخذ وقتها في التمعن في الأمور. أما التطورات التقنية لا تنتظر أحداً، وقد قامت صناعة التشفير على كل حال وأصبحت واقعاً ليس بالإمكان تجاوزه فقيمتها السوقية حالياً تُقَدر بنحو 3.2 ترليون دولار )2 ترليون نصيب بيتكوين ونحو 400 مليار إثيريوم، 150مليار XRP الخ) وفقاً لستاتيستكا. لكنها حققت ذلك بوضعية أقرب ما تكون إلى وضعية العشوائيات في المدن؛ لا أحد يستطيع نكران أنها أحياء بها سكان وتأخذ حيزاً مكانياً لكنها غير منظمة ولا تحظى بأية خدمات.

وهكذا، فالإضافة الجوهرية التي يمكن أن يجلبها عهد الرئيس ترامب هو أن ينظم هذه “العشوائيات”، ليس وارداً أن ينجز ذلك من خلال حلول “ثورية” بل باتباع منهجية “سددوا وقاربوا” بإطلاق منظومة من المبادرات تُحدِث “كُوة” في السياج الصلد والشائك الذي يتمترس خلفة قطاع الخدمات المالية التقليدي. فما المجال الذي من المتوقع أن يعمل الرئيس ترامب في محيطه ليجعل الولايات المتحدة عاصمة التشفير في العالم؟

حلم ترامب وتحقيقه

حتى تصبح بلاده عاصمة التشفير في العالم فلابد أن يكون ما سيتخذه الرئيس ترامب من إجراءات مقبولاً من الجهات الدولية المالية المعتبرة لدى البنوك المركزية في المقام الأول، ويأتي على رأسها بنك التسويات الدولية، وجزء من التحدي الذي على السيد ترامب التعامل معه هو التعامل مع البنك فهو المدخل لإحداث تفاهم وربما اختراق بمشاركة البنوك المركزية الأعضاء. أما حالياً، فموقف بنك التسويات الدولية من العملات المشفرة أنها أقرب إلى أصول المضاربة منها إلى النقد، فضلاً عن توجسه لغياب التنظيم والرقابة للتحوط من المخاطر، ومع ذلك فالبنك لا ينكر الامكانات التي تجلبها تقنيات “بلوكتشين” للتطبيقات المالية لكن لا يمتد ذلك للحلول محل العملات الورقية، وهكذا فالعقبة الكأداء هي أن البنك لا يقرّ بأن العملات المشفرة هي عملات يمكن است