بقلم ابراهيم ريحان
«أساس ميديا»
قبل سنةٍ بالتّمام والكمال استيقظَ العالم بأسره على مشاهِد من غزّة لم يكُن من السّهل تصديقها. مُقاتلون من حركة حماس يعبرون السّياج الأمنيّ الفاصل بين القطاع والأراضي المُحتلّة. منهم من عبر على متن آليّات ودرّاجات ناريّة. ومنهم من عبرَ طائراً عبر مظلّات شراعيّة. ومنهم من عبَرَ من بحرِ غزّة نحوَ منطقة شاطئ عسقلان.
الدّهشة التي أصابت العالم يومها لم تتوقّف في تل أبيب أو واشنطن أو لندن، بل حتّى إنّها كانت في طهران والضّاحية الجنوبيّة. اختارت إسرائيل الانتقام في غزّة، ففتحت مخازن ذخائرها وسلاحها وصبّتها من دون توقّفٍ على بقعة جغرافيّة لا تتعدّى مساحتها 365 كلم مربّعاً. فالنّار التي اشتعلت في القطاع لم تقف عند حدوده، وهي اليوم تحرقُ لبنان والحُديدة اليمنيّة، وسوريا والضفّة الغربيّة، وعيونها نُصبَ إيران.
المكان: ضاحية بيروت الجنوبيّة.
الزّمان: 7 تشرين الأوّل 2023 السّاعة السادسة صباحاً.
يتّصلُ نائب رئيس المكتب السّياسيّ لحركة حماس صالح العاروري بقيادة الحزبِ طالباً إبلاغ الأمين العام حسن نصرالله أنّ قيادة الحركة في غزّة أبلغته أنّها قرّرت شنّ هجومٍ واسعٍ على إسرائيل وأنّ الفُرصة حانت لفتحِ جميع الجبهات في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران. في الوقت الذي تبلّغَ فيه نصرالله ذلك سارع للتّواصل مع القيادة الإيرانيّة التي كانت مثلَ نصرالله لا تعلم شيئاً عن نيّة قائد حماس في غزّة يحيى السّنوار أن يمضي مُنفرداً لتنفيذِ خطّةٍ مرسومة سلفاً لجميع أركان المحور.
الحزب يشاهد على التّلفاز
شاهدَت قيادتا إيران والحزب عمليّة “طوفان الأقصى” على شاشات التلفاز أسوة ببقيّة المُشاهدين من زعماء وقادة دول وعامّة النّاس. وحده يحيى السّنوار قرّرَ أن يخوضَ جولةً قاسية على الإسرائيليين الذين كانوا قد فرغوا من الاحتفال برأس السّنة اليهوديّة وهم مُطمئنّون أنّ حماس في قطاع غزّة “مردوعة ولا تُريدُ حرباً مع تل أبيب”.
طوال ذلكَ النّهار، كانَت قيادة الحزبِ تخوض نقاشاً مع الإيرانيين حولَ إمكانيّة التّدخّل. فالمِحور برمّته ومعه سرديّة “تحرير القدس” و”الصّلاة في الأقصى” باتوا على المحكّ. فإيران يومها كانت تخوض مفاوضاتٍ مع الولايات المُتحدة، ووصلَت إلى صفقة بشأن تبادل الرّهائن والإفراج عن أموالٍ من أصولها المُجمّدة. والحزبُ كانَ يخوضُ غمار السّياسة الدّاخليّة ومعركة رئاسة الجمهوريّة، وينتظر تقدّم التسوية الأميركيّة – الإيرانيّة.
خلطَ يحيى السّنوار أوراق إيران والحزب. وبعدَ نقاشات قرّرَ الحزبُ أن يدخُلَ المعركة تدريجيّاً لحماية “المحور وسرديّاته” منذ صباح الثّامن من تشرين الأوّل 2023، وأن يُبقي معركته تحتَ سقف الحرب الواسعة التي لا تُريدها إيران، خصوصاً في ذلكَ التوقيت.
من التدرّج إلى الحرب الشّاملة
تدرّجَ دخول الحزبِ في الأيّام الأولى عبر استهداف المواقع الإسرائيليّة في منطقة مزارع شبعا. وبعدَ أيّام قليلة بدأ باستهداف المواقع الإسرائيليّة الحدوديّة مثل “الرّاهب” و”مسكاف عام” و”المطلّة”. وحاولَ قدر الإمكان أن يبقى على هذا المستوى من الاستهداف.
لم تكن قيادة “حماس” راضية عن شكل المعركة التي رسمها الحزبُ يومذاك. وهذا ظهر على لسان قائدها في الخارج خالد مشعل الذي قال صراحةً إنّ ضربات الحزبِ ليست على مستوى المعركة. وكذلك فعل نائبه موسى أبو مرزوق. كانَ رهان قيادة الحزب وإيران أنّ المعركة لن تستمرّ لأكثر من 4 أشهر، وذلكَ لسببيْن:
1- اعتقدَ أركان محور إيران أنّ إسرائيل ستشنّ ضربات انتقاميّة ضدّ حماس، وحين تتكبّد خسائرَ في الهجوم البرّيّ ستطلب وقف النّار وتذهب إلى تفاوضٍ حولَ تبادل الأسرى، وأنّ الجبهة الدّاخليّة الإسرائيليّة لن تتحمّلَ حرباً أطولَ من ذلك.
2- ستُبادر الولايات المُتحدة لوقف الحرب بسبب الانتخابات الأميركيّة، وستلعبُ المفاوضات بين واشنطن وطهران دوراً أساسيّاً في ذلك.
لم تكُن الرّهانات في محلّها. ذلكَ أنّ أحداً لم يُحسِن تقدير الموقف الإسرائيليّ. ما حصلَ يوم السّابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) هو نقطة تحوّل كبرى في العقليّة الإسرائيليّة العسكريّة والأمنيّة.
معركة إسرائيل الوجوديّة
هنا لا بدّ من ذكرِ بعض الأسباب التي غفلَ كثيرون عن قراءتها وظنّوا أنّ إسرائيل قبل 7 تشرين الأوّل ستكونُ نفسها بعده.
1- هي المرّة الأولى التي تتعرّض فيها إسرائيل لانتكاسةٍ أمنيّة وعسكريّة على يدِ فصيلٍ مُسلّحٍ لا جيش دولةٍ نظاميّ كما كان الحال في حرب أكتوبر 1973 مع مصر وسوريا.
2- زادَ توثيق حماس والمستوطنين لوقائع ذلكَ اليوم الطّويل من الرّغبة الإسرائيليّة الرّسميّة والشّعبيّة في الانتقام.
3- اعتبرَ الإسرائيليّون أنّهم في حربٍ وجوديّة. فهم يرون أنفسهم أقليّةً في محيطٍ معادٍ، ومن هذا المنطلق يُعزّزون رغبتهم الانتقاميّة والتّعطّش لاستعمال القوّة المُفرطة لإرهاب دول الجوار.
4- كانَت في تل أبيب حكومة يمينيّة خالصة تُعتبر الأكثر تطرّفاً في عمر الكيان العبريّ. وكانت هذه الحكومة آيلةً إلى السّقوط بعد محاولاتها المُتكرّرة لتعديل قوانين تخصّ القضاء، وتحدّ من سلطته على الإدارة السّياسيّة للبلاد. والأهمّ أنّ على رأس هذه السّلطة السّياسيّة بنيامين نتنياهو، الذي يُعدّ أكثر شخصية تتبوّأ منصبَ رئاسة الوزراء في إسرائيل، وأكثر شخصيّة إسرائيليّة تعرفُ تماماً التوازنات السّياسيّة الأميركيّة وكيفيّة إدارة العلاقة مع واشنطن بشكلٍ مُختلفٍ عن أغلبيّة أسلافه.
منذ اللحظات الأولى عرفَ نتنياهو كيفَ يُجيّش الرأي العام الدّوليّ. ذهبَ لإعادة إحياء سرديّة هجوم 11 أيلول 2001، واعتبرَ أنّ ما حصلَ هو 11 أيلول إسرائيليّ. صوّرَ معركته مع “حماس” معركةً بين الحضارة وما سمّاه البربريّة. بات في المجتمع الإسرائيليّ صورة ثابتة: “إنّها حربٌ وجوديّة”.
في لبنان حاوَل الحزبُ البقاء على المستوى عينه من القِتال مُعتمداً على ما سلفَ ذكره. لكنّ الإسرائيليين كانوا ينتظرون إلى حين الانتهاء من غزّة للتحوّل إلى الجبهة الشّماليّة مع لبنان. وذلكَ أنّ عين تل أبيب قبل 7 أكتوبر لم تكن على جبهتها الجنوبيّة، بل على الجبهة الشّماليّة.
طوال السّنوات الماضية كانت إسرائيل تُجري مناورات دائمة تحتَ مُسمّى “عربات النّار” تُحاكي حرباً شاملة مع الحزبِ. وهذا ما يُفسّر أنّ سياسة الانتقام كانت طاغية في غزّة على سياسة العمل العسكريّ. إذ إنّ التحضيرات الأساسيّة كانت للبنان.
بدأت تل أبيب تنفيذ خطّتها بشكلٍ فعليّ يومَ اغتالت قائد قوّة الرّضوان في جنوب لبنان وسام الطّويل في شهر كانون الثّاني الماضي عبر تفجير عبوة ناسفة زُرِعت إلى جانب طريق منزله في خربة سلم. توالت بعد اغتيال الطّويل سلسلة اغتيالات طالت قادة ميدانيين في الحزبِ أبرزهم قائد وحدة “نصر” المسؤولة عن القطاع الشّرقيّ سامي طالب عبدالله (أبو طالب) في حزيران 2024، وبعده قائد وحدة “عزيز” المسؤولة عن القطاع الغربيّ محمّد ناصر (أبو نعمة) في تمّوز 2024.
بعد اغتيال القادة الأساسيين في الميدان، تحوّلَت الاغتيالات الإسرائيليّة نحوَ قادة المجلس الجهاديّ في الحزبِ. وفي نهاية تمّوز كانَ الهدفُ المسؤول العسكريّ فؤاد شُكر. ومن بعده كرّت سُبحة الاغتيالات لتطال قائد العمليّات وقوّة الرّضوان إبراهيم عقيل ومعه مجموعة من قادة الرّضوان، أبرزهم أحمد وهبي مسؤول التدريب. وما بين الاغتيالات، كانت تل أبيب تُفاجئ الحزبَ بهجومٍ من “خارج الصّندوق”، وهو تفجير أجهزة الاتّصال (البيجر واللاسلكي) على مدى يوميْن، الذي أدّى إلى مقتل العشرات وإصابة المئات من عناصره الذين يُمكن اعتبار أنّ أغلبهم بات خارج الخدمة العسكريّة. أمّا الضربة الكُبرى فكانت في اغتيال الأمين العامّ يوم 27 أيلول.
كلّ ما سلفَ كان ضمن خطّة “عربات النّار” المُعدّة سلفاً للحزبِ، والتي تتضمّن سلسلة الاغتيالات والإغارة على مواقعه العسكريّة وضرب ما أمكن من ترسانته العسكريّة من صواريخ وطائرات مسيّرة.
وجدَ نتنياهو في السّقف الذي رسمه الحزب ومعه إيران أنّهما لا يريدان “الحرب الشّاملة”، فكانت فرصته لتنفيذ كلّ هذه الضّربات. وفي أسوأ الحالات يستطيع استدراج الولايات المُتحدة لمواجهة مباشرة مع إيران تُعطيه الفرصة لينقضّ على برنامجها النّوويّ والصّاروخيّ ومنشآتها النّفطيّة. وبذلكَ يكون رئيس الوزراء الإسرائيليّ يمضي قدماً في مخطّطه لـ”الشّرق الأوسط الجديد” الذي رفع خريطته على منبر الأمم المتحدة في نيويورك قبل ساعات قليلة من اغتيال نصرالله.
هكذا استدرجَ نتنياهو الحزبَ من “الإسناد” إلى الحرب الواسعة، مُعتمداً على سقف إيران التي كانت طوال الأشهر الماضية تُبلغ واشنطن أنّها لا تريد حرباً شاملة في المنطقة على الرّغم من كلّ ما تعرّضت له من ضربات في لبنان وسوريا وحتّى في قلبِ طهران مع اغتيال إسماعيل هنيّة.. لكنّها فعليّاً اليوم في قلبِ الحرب الشّاملة، أدركت ذلك أم لم تُدرك.
ابراهيم ريحان