بقلم الفضل شلق
الخلط بين الدولة والنظام هو من بقايا ما قبل الحداثة. ليست الحداثة خياراً. هي ما يفرضه علينا النظام العالمي. فإما أن نأخذ ما يُفرض علينا مع نظام سياسي مؤداه الدولة، أو نأخذ الحداثة مع استبداد يجعل المجتمع مهمشاً، ويعيد الدولة مجرد نظام، والمواطنين مجرد رعايا. والسياسة تقتصر على العمودية، أي التنافس على الزعامة والوجاهة، دون السياسة الأفقية بما تعنيه من تعاون، أو وهم التعاون.
في أكثر البلدان حداثة، هناك توتر دائم بين السياسة الأفقية والسياسة العمودية. نضال الشعوب أدى الى تنازلات، وبخاصة مع وجود الاتحاد السوفياتي وما اعتبرته الرأسمالية العالمية خطراً عليها. فاضطرت السلطة التي هي في الأساس نظام الأمر والنهي إلى تشكيل نظام الرعاية، بداية مع تحديد يوم العمل بثماني ساعات، ثم ضمانات الشيخوخة والبطالة، وتعميم حق التصويت لكل الذكور، ليس فقط لأصحاب الأملاك، ثم للنساء، والضمانات الصحية. تشكّل على هذا النحو نظام الرعاية الصحية. هذا إلى جانب حرية الصحافة، وحق تشكيل النقابات العمالية وغير العمالية. آلت الليبرالية إلى نظام الرعاية الاجتماعية. لكن ذلك سقط مع سقوط الاتحاد السوفياتي. لم تعد الرأسمالية تعتبر نفسها في خطر. مع سقوط الاتحاد السوفياتي سقطت الليبرالية وظهرت النيوليبرالية.
الأزمة التي طالت المعسكر السوفياتي في بداية السبعينيات كانت قد طالت المعسكر الرأسمالي في نفس الوقت. لكن الأول تفكك في العام 1989، والثاني استطاع تجاوز أزمات متتالية عن طريق التضخّم، وإبطاء ارتفاع الأجور، وتصدير كثير من الصناعات المتطلبة لكثافة اليد العاملة إلى بلدان العالم الذي كان ثالثاً. حيث بقيت الأجور متدنية. والنقابات ممنوعة أو مقموعة وحلت سياسة الأمر مكان سياسة التفاوض. والسياسة العمودية مكان السياسة الأفقية.
يتوهم الكثير من الناس أن النيوليبرالية هي ليبرالية من نوع جديد. وهي في الحقيقة انقلاب على الليبرالية. اعتقد الكثيرون أيضاً أن الخصخصة التي أرادت النيوليبرالية تعميمها هي تصغير حجم الدولة لصالح القطاع الخاص، بينما هي تطلبت دولة أشد قبضة على الطبقات الدنيا وأكثر حرية للقطاع الخاص، أي الرأسمالية، مع انفاق أكبر على العسكر وقوى الأمن، والضبط الاجتماعي والسياسي.
العام 1979-1980 كان مفصلياً. أي حققت النيوليبرالية والأصولية الدينية والفاشية قفزة كبيرة وتوسعاً كبيراً حول العالم. مقابل ذلك تراجع دور السياسة، بمعنى إدارة المجتمع (السياسة الأفقية)، وتراجع دور الحرية، وتعاظم شأن القوميات والعصبيات، وتراجع دور الدولة كإرادة العيش سوية لصالح النظام كسلطة الأمر والنهي. التيارات الأصولية على استعداد دائم لتواكب الرأسمالية في مسارها. كان الاتحاد السوفياتي وهماً اشتراكياً؛ هو رأسمالية الدولة وحكم النخبة من أصحاب الامتيازات، والقبضة الحديدية على الناس، وكبت الحريات. كل ذلك ليس اشتراكية بل وهم الاشتراكية. أحدث سقوط هذا الوهم صدمة. وسوف تمر البشرية بمرحلة من الإحباط، لا نعرف مدى طولها وقساوتها، قبل عودة المشروع الإنساني الاشتراكي. بل قبل عودة الأمل إلى البشرية بالخلاص من الرأسمالية، والاستبداد، والاستغلال، والفقر، والجفاف الأخلاقي. وليس هناك ما يؤكد أن الرأسمالية إلا أن تأبى الرحيل. وإذا رحلت فهي ستأخذ البشرية معها إلى هاوية تشبه الفناء. ما يحدث للبيئة الطبيعية، والتغيّر المناخي الذي بات يغيّر الفصول، ومحو الغابات الاستوائية التي هي مستودع لإنتاج ما يخفف من وطأة الانبعاثات الكاربونية، إضافة إلى ما يحدث من زحف الصحراء وتوسعها على حساب الأراضي الزراعية، والفيضانات في غير موعدها المعروف سنوياً، والعواصف القاتلة، الخ..، وكل ذلك من صنع الإنسان، بل نتيجة عدم اكتراث الرأسمالية لمصير الأرض والبشرية، لأن دوافع الربح السريع لديها يغلب على أية رؤية مستقبلية، سواء على المدى الطويل، وحتى القريب. والحديث عن ذلك يطول.
الرأسمالية الإمبريالية
ازدياد الفقر لدى الكثرة الساحقة من البشرية حول العالم، وازدياد التضخّم بسرعة كبيرة، في وقت تميل الأجور الى الجمود أو الى تباطؤ زيادتها بالنسبة الى زيادة التضخّم، وتراكم ثروات هائلة لدى قلة من البشرية، وتفاقم هوة المداخيل بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا، إضافة الى انتشار الحروب وبخاصة في منطقتنا، ولا ننسى أوكرانيا وأوروبا عامة، والإرهاب الغذائي إلى جانب إرهاب الأوبئة، كل ذلك يشير إلى أن الطبقة الرأسمالية العليا التي تشكّل أقل من 1% من الناس حول العالم، ستفعل كل ما باستطاعتها، ليس فقط للحفاظ على وضعها، بل لتحسين وضعها وزيادة وضع البشرية والبيئة سوءاً.
الأنكى من ذلك هو عشوائية الإمبريالية في التعامل مع الدول الأخرى، حتى الأوروبية الغربية منها، ناهيك عن أوروبا الشرقية. ما يبدو عشوائياً هو في حقيقة الأمر سلوك امبريالي منهجي. تعتقد الامبراطورية، وأتباعها في الغرب، أنها صاحبة الحق في معاقبة الدول الأخرى وشعوبها وأفرادها انتقائياً، متسلحة بما يسمى “حقوق الإنسان”، ودعم الديموقراطية، ومحاربة الإرهاب..
هذه الرأسمالية الامبريالية تدعم الديكتاتوريات، والفاشيات والأصوليات الدينية حول العالم، في وقت تدعي حماية الديموقراطية وتدمّر المجتمعات وتعيق تطورها نحو “الدولة” بالمعنى الإنساني والسياسي؛ السياسي بمعنى إدارة شؤون المجتمع وليس فقط حكم المجتمع والتسلّط عليه. هي لا تستطيع التعامل، حول العالم إلا مع حكومات ديكتاتورية. والأفضل بالنسبة لها أن تكون حكومات عسكرية أو عسكرية بغلاف مدني.
مهما تحدثنا عن الرأسمالية الإمبريالية، وعن جرائمها، وحروب الإبادة التي تشنها ضد البشرية، فإننا لن نقصّر. لكن المشكلة الأساسية هي في بلدان العالم الذي كان ثالثاً. فبلدانه محكومة حتى الآن بالتخلّف. معنى ذلك العجز عن التقدم واكتساب حداثة نابعة من مجتمعاتها. هناك تحكّم إمبريالي، وهذا صحيح؛ هناك تأخّر لدينا، وهذا صحيح. المشاكل الاقتصادية عندنا ما زالت مستعصية على الحل، ويسمونها تبعية الأطراف للمركز. لكن التشوهات التي تولدها الإمبريالية في مجتمعاتنا عميقة. الأجدر هو الحديث عن تشلعات هذه المجتمعات في ظل دول هي مجرد أنظمة لم تستطع أن تتطوّر بسكانها نحو المواطنة؛ علماً بأن المواطنة هي الوجه الآخر للدولة الحديثة التي تبدو شبه مستحيلة عندنا.
أهم هذه التشوهات أو التمزقات في مجتمعاتنا هي بعثرة النخب الثقافية والسياسية في غياب إطار من العمل والإنتاج ينظم تعدديتها، ويجعل الاختلاف مقبولاً. أُعيق تطوّر الدولة تطوراً طبيعياً انسيابياً نحو المواطنة، فاتجهت الأمور في معظم الأحيان الى تحديث قسري، واستبداد سياسي، وتمزّق ثقافي. لدى كل فرد أكثر من ثقافة، على الأقل ثقافتان لا تلتقيان، وتتصارعان بحيث أن الواحدة منهما، أو منهنّ، تحاول القضاء على الأخرى أو الأخريات. صراع أو تعددية تدميرية أكثر منها تعددية في حالة اختلاف. بعض أنواع الاختلاف تغني الذات، وبعضها تدمر الفرد والمجتمع. وما يؤدي إليه هو دونية ثقافية وسياسية، وفي النهاية عجز اقتصادي، وطرفية تجعل أصحابها يشعرون أنهم خارج الحاضر. هم في الأساس خارج الماضي لأنه مضى ولم يعد ممكناً الرجوع إليه. وهم في نفس الوقت عاجزون عن صنع المستقبل الذي صار ميؤوساً منه، مما أدى إلى هجرة متزايدة للنخب إلى الغرب. الذين هاجروا، قلة منهم كانوا لاجئين سياسيين هاربين من الاستبداد السياسي. الأغلبية هاربون من ثقافتهم. حتى في بلاد الغربة تلاحقهم الدونية. لم يعد المواطن العربي، مثلاً، مواطناً أينما كان. هو مواطن في اللامكان. الخوف من الغزو الثقافي موجود عند النخب الدينية والعلمانية. تكلّس النخب الدينية أدى إلى كبح النخب الثقافية وشللها ثقافياً، وسياسياً، حتى الثورية أو اليسارية منها.
الفضل شلق