بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
الحرب الإسرائيلية على غزة لن تستمرّ إلى ما لا نهاية. لا بدّ من أن تضع أوزارها عاجلاً أو آجلاً. من هنا السؤال: ماذا بعد توقّف الحرب؟
أجاب على هذا السؤال في نيسان الماضي مئة من خبراء العالم ( لم يكن بينهم فلسطيني أو إسرائيلي). وجاء في الجواب الذي استغرق إعداده عدّة أشهر أنّ عام 2050 لا بدّ أن يشهد ولادة دولة فلسطينية قوامها غزة والضفة الغربية، وأنّ عدد سكّان هذه الدولة سوف يصل إلى 13 مليوناً، أي أكثر بخمسة ملايين من العدد الحالي للفلسطينيين.
رأى الخبراء في دراستهم الاستطلاعية أنّ غزة سوف تكون متّصلة بالضفة الغربية بواسطة سكّة حديد. وسيكون للدولة مرفأ بحريّ ومطار. وستكون لها موارد طبيعية غنيّة (حقول غاز ونفط في البحر مقابل ساحل غزة). وستكون للدولة الجديدة أيضاً عملتها الوطنية المضمونة والمدعومة من دول مجلس التعاون الخليجي.
حتى الدمار الشامل تقريباً الذي لحق بغزّة ومدنها، يوفّر، كما جاء في التقرير، الفرصة لبناء مدن حديثة بموجب مخطّط مدني جديد.
اغتيال رابين والدّولة الدّينيّة
أضغاث أحلام؟ ربّما. هذه الأحلام أو ما يشبهها خرجت لأوّل مرّة في عام 1993 بعد التوقيع على اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ولكنّ اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت إسحق رابين على يد أحد المتطرّفين اليهود في عام 1995 بدّد حلم السلام.. وحلم إعادة بناء الدولة الفلسطينية.
بعد الاغتيال أعلنت إسرائيل نفسها دولة دينية (لا تتّسع في المواطنة لغير اليهود)، وبدأت ممارسة سياسة قضم الضفة الغربية وزرعها بالمستوطنات اليهودية، وخنق قطاع غزة.
لم يستسلم الفلسطينيون في غزة ولا في الضفة. وأدّى عدم استسلامهم وتعاطف العالم معهم إلى ولادة مشروع الدولة الفلسطينية من جديد.
كرّس الولادة الجديدة أمران:
– الأوّل تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع لإقامة دولة فلسطينية.
– الثاني: صدور الأحكام الجديدة عن محكمة العدل الدولية بإدانة إسرائيل لارتكابها جرائم ضدّ الإنسانية في غزة، ودعوتها إلى الانسحاب من جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها بعد حرب 1967، وتفكيك جميع المستوطنات التي أقامتها بقوّة الاحتلال.
تعترف معظم دول العالم بالدولة الفلسطينية، إلا أنّ الاعتراف الدولي لا يأخذ شكله القانوني والواقعي ما لم يصدر عن مجلس الأمن الدولي. وحدها الولايات المتحدة تحول دون ذلك من خلال حقّ الفيتو الذي تتمتّع به بموجب نظام المجلس. وقد استخدمته فعلاً لتعطيل شرعية الاعتراف الذي أجمعت عليه الجمعية العامة.
الفلسطينيّون يتقدّمون علمياً وصحياً..
تقول دراسة الخبراء الدوليين المئة إنّ المجتمع الفلسطيني، على الرغم من تشتّته ومعاناته تحت الاحتلال، يتمتّع بالمواصفات التي تؤهّله لأن يكون جزءاً من المجتمع الدولي، أي أن تكون له دولة.
يشرح التقرير ذلك بقوله إنّ الفلسطيني يقضي اليوم سنتين ونصف سنة تقريباً في الدراسة أكثر من السابق، وهو ما يجعله من أكثر الشعوب العربية ثقافةً. ففي التسعينيات حصلت غزة والضفة الغربية على علامة 0.53 من مؤشّر التنمية البشرية الذي تضعه الأمم المتحدة، علماً بأنّ علامة واحد هي العليا. وتقوم العلامة على تقويم المستويين التعليمي والصحّي. وفي عام 2022 ارتفعت العلامة إلى 0.71، وبذلك تقدّمت الضفة الغربية حتى على المغرب.
استناداً إلى دراسات الأمم المتحدة فإنّ معدّل الدخل الفردي في الضفة الغربية يعادل الدخل الفردي في العراق (أي حوالي 43 في المئة من المعدّل العالمي). ولقد بلغ حجم الدخل القومي للأراضي الفلسطينية المحتلّة في عام 2023، حسب أرقام الأمم المتحدة، 18.6 مليار دولار.
غير أنّ الجانب المأساوي في مشروع الدولة الفلسطينية يتمثّل في تضخّم عدد المستوطنين اليهود في القدس الشرقية وفي الضفة الغربية. فقد ارتفع عددهم من 250 ألف مستوطن إلى 695 ألفاً اليوم. وبموجب الوضع الحالي فإنّ أهل الضفة الغربية ليسوا معزولين عن غزة فقط، بل وعن القدس عاصمتهم المقدّسة.
يتولّى منصب الرئاسة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) منذ عشرين عاماً، وقد تجاوز اليوم سنّ الثمانية والثمانين. وهو (السلطة الفلسطينية) على خلاف مزمن مع حركة حماس. ومواقفهما من مشروع الدولة وحتى من العدوان الإسرائيلي على غزة متباينة إلى حدّ التناقض.. وأحياناً إلى حدّ التخوين. الأمر الذي يعطّل المسيرة المشتركة لبناء الدولة الفلسطينية العتيدة.
تعرف إسرائيل جيّداً هذه الاختلافات وحاولت استغلالها بتحريض حماس ضدّ فتح، وفتح ضدّ حماس. إلا أنّ عملية السابع من أكتوبر قلبت السحر على الساحر.. وتركت رئيس الحكومة نتنياهو يتخبّط في دوّامة الفشل، بدءاً من تحريض (وحتى تسليح) حماس على فتح، إلى حسم الحرب العدوانية التدميرية التي يشنّها على غزة حتى لا يبقى شاهد حيّ من قادة حركة حماس يكشف عن رهانه الخاسر!!
يبقى أنّ المجتمع الدولي (الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية) بدأ يتصرّف على أساس أنّه اتّخذ قراره الأخير. لا بدّ من إقامة دولة فلسطينية تكون في حدّ ذاتها حلّاً لمشاكل الشرق الأوسط .. ولمتاعب العالم في الشرق الأوسط.
*كُتب هذا المقال قبل لقاء المصالحة بين فتح وحماس في الصين..
محمد السماك