الدور الوطني والحامي لغبطة البطريرك الراعي

بقلم د. ابراهيم العرب
هو بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وهو من رجال الدين المتميّزين، الرائدين بالتبشير بالقيم الحضارية التي تقوم عليها المسيحية، وقد فرض نفسه مرجعًا روحيًا يتعدّى حدود الفوارق الدينية، لكونه الرافض للعصبيات الطائفية والداعي إلى الوحدة الوطنية بين المسيحي والمسلم، ولأنه يعي أن الوحدة الوطنية هي سياج الوطن الصغير، لبنان، في مواجهة أعتى التحديات التي تعصف به.
والبطريرك الراعي كان أوّل بطريرك ماروني يزور السعودية، بدعوة رسمية من خادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز، اعترافًا من أعلى مرجعية إسلامية بدور مميّز لمسيحيي لبنان في إطار السعي إلى تضييق المسافات بين المسلمين والمسيحيين في العالم أجمع؛ هذه الزيارة التي كان لها رمزية عالية جدًا في زمن «صراع الحضارات» القائم للأسف على أساس طائفي على مستوى العالم، وليس الشرق وحده.
وحرصًا من البطريرك الماروني على ضرورة الحفاظ على التعايش الإسلامي-المسيحي في الشرق، فقد أقام بالسابق احتفالًا في الصرح البطريركي تحت عنوان «مئة سنة على العِلاقة التاريخية بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية»، بحضور السفير السعودي الوزير وليد بخاري. كما تخلّل الحفل حينها توقيع كتاب «علاقة البطريركية المارونية بالمملكة العربية السعودية» للأباتي أنطوان ضو الأنطوني، وعرض للعموم للمرة الأولى، وثائق تاريخية ومراسلات بين الطرفين تعود لسنة 1920. كما تخلّله حينها كلمة مميّزة للوزير بخاري، أشار فيها إلى أهمية الدور الوطني والجامع لغبطة البطريرك الكاردينال الراعي، وأهمية عِلاقة الصداقة القائمة بين المملكة السّعُودية والبطركية المارونية، مشددًا على ضرورة مواجهة التحديات التي يعيشها لبنان، لجهة محاولة البعض العبث بعلاقة لبنان الوثيقة وعمقه العربي، وإدخاله في محاور أخرى تتنافى مع عروبته التي أكّدت عليها مقدمة الدستور اللبناني، ومشددًا أيضًا على مسألة أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، ولا شرعية لخطابات الفتنة والتقسيم والشرذمة ولا للخطابات التي تقفز فوق هوِيَّة لبنان العربي. كما تخلّل الحفل كلمة تاريخية للبطريرك الماروني أشار فيها إلى دور الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود البنّاء بالدفاع عن استقلال لبنان، ودور المملكة برعاية مؤتمر الطائف الذي نتجت عنه وثيقة الوفاق الوطني التي تشكّل امتدادًا للميثاق الوطني، مشددًا على مسألة أنّ المملكة لم تقم كغيرها بالاعتداء على سيادة لبنان وانتهاك استقلاله، واستباحة حدوده وتوريطه في حروب، وتعطيل ديمقراطيته وتجاهل دولته؛ وإنما أيّدته في المحافل العربية والدولية، وقدّمت له المساعدات الاقتصادية والعمرانية، ورعت مصالحاته وأوجدت له الحلول، ووفّرت الإقامة وفرص العمل للّبنانيين.
والبطريرك الراعي كان وما يزال يحافظ على الدور الماروني في العالم العربي، وكذلك على حقوق طائفته السياسية والاقتصادية ويمنع تأجيج النزاعات الدينية، ويحافظ على حضارة المسيحيين التي بنوها خلال آلاف السنين في المشرق، كما يحمي التعايش السلمي مع المسلمين، خصوصاً بعدما قصّرت الأسرة الدولية بحقوق مسيحيي الشرق.
كما يحرص سيد بكركي على الحفاظ على لبنان الدولة والوطن والرسالة، ولذلك قام بإرسال موفده الخاص لزيارة حاكم مصرف لبنان السابق بمكان توقيفه للاطمئنان على صحته وعلى حسن سير إجراءات المحاكمة، ومن أجل التأكد مما إذا كانت حقوق الموارنة في لبنان مصونة، لاسيما ذوي الوزن والثقل على الصعيدين اللبناني والدولي، للدفع قدمًا نحو ضمان المحاكمات العادلة، للوصول إلى تحقيق المساواة الكاملة، خصوصًا في ظل غياب رئيس الجمهورية اللبناني الماروني، الذي كان من المفترض أن يُنتخب منذ حوالي سنتين.
وبالتالي، فإن دور سيد بكركي في حماية لبنان والاهتمام بشؤون رعيته لا لبس فيه، إذ أن حرصه على المحاكمات العادلة، جاءت بناءً على اهتمامه بأن يكون لبنان دولة قانون ومؤسسات، وهذا ما يتناغم معه قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس بسعيه الدائم لحماية مسيحيي لبنان والمشرق، لا سيما وأنّ البطريرك الراعي ينقل إلى قداسة البابا دومًا أجواء الوضع اللبناني الداخلي بحقيقته، وخطورته، وما ينعكس على مستقبل الموارنة والكاثوليك وسائر مسيحيي الشرق، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية، وما تقوم به الكنائس من مبادرات فاعلة. فالكنيسة المارونية تحظى برعاية مشدّدة من الفاتيكان، ولها دور أساسي في تحريكه نتيجة دورها التاريخي في الشرق والعلاقة العريقة مع الكرسي الرسولي، وهي التي قادت الكنائس الكاثوليكية الى عقد السينودوس من أجل لبنان، وهي التي كانت وراء زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان منذ سنوات، وسوف تكون في القريب العاجل هنالك زيارة للبابا فرنسيس إلى وطننا أيضًا، بعدما دعاه الرئيس نجيب ميقاتي من خلال رسالة أوصلها له أمين سر الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين.
واليوم يسعى سيد بكركي جاهدًا لوضع موضع التنفيذ برنامَج العمل الذي خطّه قداسة الحبر الأعظم في الرسائل التي أرسلها مع الكاردينال بارولين، وذلك من خلال تذليله عقبات انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، والسعي لوقف استنزاف لبنان لحسابات ضيقة، وإبعاد الوطن ومسيحييه عن خطر الزوال والاضمحلال والذوبان نتيجة الاحتقان السياسي القائم في البلد؛ حيث اعتبر البطريرك الراعي أنّ رسائل قداسة الحبر الأعظم التي أوصلها الكاردينال بارولين، تشكّل خريطة الطريق لإخراج لبنان من أزماته، وأنّ مسار حلّ القضيّة اللبنانيّة، يَمرُّ حتمًا بلقاء المسلمين والموارنة وسائر المسيحيين على وحدة دولة لبنان في ظلِّ الديمقراطيّة والتعدديّة واللامركزيّة والحياد الإيجابي الناشط ووحدة القرار الوطنيّ والانتماء العربيِّ وتنفيذ جميع القرارات الدوليّة، لاسيما القرار ١٧٠١.
وعليه، أصبح واضحًا مدى حاجة لبنان في ظلِّ هذا التمزّق والانهيار إلى مساعدة البطريرك الراعي في انقاذ لبنان من أزمته المصيريّة، لا سيما بعدما يئست عواصم الدول الصديقة ولجنتها الخماسية، من اجتماع القوى السياسية اللبنانية على كلمة سواء كنقطة انطلاق لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يباشر العمل الإنقاذي، ويحول دون تحوّل لبنان لدولة فاشلة، مدرجة على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF.
كما يسعى سيد بكركي لإعطاء دفعة قوية للالتزام بضمان المحاكمات العادلة للبنانيين عمومًا وللموارنة خصوصًا، ولتحفيز العيش المشترك والأخوّة والسلام في الشرق، الذي أصبح واجبًا ملحًا للبشريّة جمعاء ليس على الصعيد الأخلاقي وحسب بل والإنساني أيضًا.
وختامًا، نشكر البطريرك الراعي على اهتمامه بأن تكون العلاقة بين الموارنة وسائر الطوائف مميّزة في لبنان، لتشكّل نموذجًا رائعًا للعلاقات الإسلامية – المسيحية في الشرق والغرب على حد سواء، وحافزًا قويًا لتعزيز علاقات الأخوّة والصداقة بينهم باستمرار؛ ولذلك فهو عندما يسعى للاطمئنان عن رعيته يبحث عن الخير والسلام، ممهدًا الطريق لتعايش جميل ومُستدام، لكي يشهد المجتمع اللبناني دفعة قوية من إنسانيته الحقيقية الأصيلة، ويُحتفى بالعلاقات الإنسانية التي يقيمها بمحطات ثمينة من المواقف الأخوية المسالمة الهامة والضرورية.
وأخيرًا، نحن واثقون من أن البطريرك المميّز الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، حفظه الله، سيبقى نبراسًا مشعًا للعمل الديني الخالص لوجه الله، وسيبقى علمًا كبيرًا من أعلام تاريخ لبنان، ونعطيه حقه ونقدّره حق تقدير على عمله الدؤوب في نشر حضارة السلام وحضارة المحبة الأخوية الصادقة. حماك الله يا صاحب الغبطة لوطننا الحبيب لبنان، وبوركت على عملك الجبّار الذي تقوم به على جميع الأصعدة، في خدمة أهدافك الدينية والاجتماعية والوطنية، مشدّدين على أننا نستعين بك لتمكيننا من استعادة وحدتنا الوطنية في لبنان، ثم استعادة المساواة الطبيعية بين مختلف الطوائف، ليكون التعايش بنّاءً وخلاقًا، لا بل رائدًا.
د. ابراهيم العرب

التعليقات (0)
إضافة تعليق