مذكرات دولة الرئيس طاهر المصري، الفلسطيني ابن نابلس “جبل النار”.
الأردني المترسخ في ذاكرته الملك الهاشمي عبدالله الاول والتي بقيت ذكراه صورته وصوته، وأخلاقه مطبوعة في نفسه… الى اليوم. عايش الملك حسين منذ تنصيبه وحتى رحيله، كما عايش الملك عبدالله الثاني، وقال عنه إنه “ملك سيدهشكم”.
عن طفولته في نابلس المدينة التي ناهضت الاحتلال الانكليزي وقادت الثورات الفلسطينية ضده يقول:
“ترعرت على المواقف الوطنية لعائلتي ولوالدي تحديداً… كما انني تشربت أحاديث الكبار التي كنت أسمعها من قبل أن أدرك أهميتها وتأثيرها بما في ذلك الحديث عن الهجرة اليهودية وعن القمع والتنكيل بحق الشعب الفلسطيني”.
دخل غمار الشأن العام نائباً ووزيراً ورئيساً لمجلس الوزراء ولمجلس النواب ولمجلس الأعيان، وعمل بمعية الملك حسين سبعة وعشرين عاماً.
كانت زوجتي تخبرني ان جدّها يوسف بك الصلح كان قاضياً في يافا قبل “النكبة”، وأنّ عمتها هدية تزوجت ابن أحد وجهاء نابلس المغفور له الحاج طاهر، وأن ابن عمتها طاهر كان من أحب الأقرباء الى شقيقاتها وإليها، وكان يفتخر بأنّ والدته لبنانية، وبسبب الدراسة في الجامعة الاميركية والتي استمرت سنوات فقد ازدادت هذه العلاقة العائلية مودّة ومحبّة.
التقيته صدفة في فندق “شيراتون” دمشق في أوائل السبعينات، وأنا لم أكن أعرفه فعرّفته بنفسي، وكان بيننا تقدير واحترام ومحبة متبادلة، وما زالت.
ترددت كثيراً قبل كتابة هذه الكلمات التي تدور حول مذكرات رجل جمع المجد من أطرافه… فكان أديباً مفوّهاً، وكاتباً يتميز برشاقة كلماته وعذوبتها، وسياسياً برع في إخضاع أفكاره السياسية للموضوعية، فجاءت مواقفه راسخة ثابتة لا زيف فيها ولا تزلّف… بهيجة الكلمة الأدبية، زاخرة بالمعاني المفيدة الهادفة، موضوعية في سرد الأحداث التي مرّ بها في معالجاته.
جذبني الكتاب نحوه… وتساءلت: أمن أجل اسم صاحب المذكرات، وهو الرجل المعروف بنباهته وصدقه؟ أم العنوان “الحقيقة بيضاء”؟.. وفكّرت ملياً بالعنوان… هل هناك حقيقة بيضاء وأخرى سوداء وثالثة رمادية؟..
فغصت في بحر هذا الكتاب المائج، أبحر بحثاً عما في أعماقه، متوّجاً بآراء شاعر النيل حافظ ابراهيم، الذي آلمه ما آلت إليه اللغة العربية من إهمال… فكتب قصيدة جميلة يقول فيها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
أعود الى درّ طاهر المصري في بحر مذكراته… أنتقي منها بعض اللآلئ والجواهر علني أنقل للقارئ الكريم أوجهاً من بلاغاته وأدبياتها.
أجاد ابو نشأت حين أشار الى ان القدر الذي لا مفر منه هو من قاده الى اختيار معترك الشأن العام مسيرة لحياته، حين وجد نفسه منخرطاً في القضايا الوطنية حتى قبل أن يعي أبعادها، وهو الذي ترعرع على المواقف الوطنية لعائلته ولوالديه تحديداً. إذ أشار الى اعتقال والده في نابلس، كما شهد انخراط عمه حكمت في الحياة السياسية نيابة ووزراء. وكان لنكبة 1948 أثر كبير في وجدانه مع احتلال فلسطين والتآمر الدولي آنذاك والمستمر الى الآن.
في خوضه غمار الشأن العام، ظلّ ميزان حياته السياسية يعتمد على مبدأ المكاشفة والمواجهة وليس على المواربة والمهادنة… ومن خلال ارتباط عائلته بالملك عبدالله الاول.. ومن خلال الافكار الوحدوية.
احتضنتها نابلس تشكل وعي طاهر المصري السياسي والوطني باكراً، وكانت الجامعة الاميركية في بيروت حيث تابع دراسته، مصدراً للتنوّع والتعدّد. كما كانت المحطة الاولى في حياته للتعرف على عوالم وفضاءات جديدة وثقافات وتجارب.
كانت هزيمة 1967 ضربة صاعقة أصابته بصدمة تركت آثارها في نفسه وفكره، فأصيب بالإخفاق. كما ركز على أحداث العام 1973 حيث عاش فترة من الصُدف. وسأل نفسه كثيراً لماذا اختاره زيد الرفاعي وزيراً في أول حكومة شكلها في تاريخه السياسي؟ وكان يسوق مبررات منطقية في ذكر الأسباب.
لم يكن الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية مستشرياً ومتوسعاً في تلك المرحلة. وكانت السياسات الاسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين أخف وطأة. وأكد ان مشاركة الاردن في حرب تشرين الاول 1973 كانت مفتاحاً مهماً لتحسين العلاقات بين الاردن وسوريا ومصر.
في قمة الرباط عام 1974 بدأ الضغط على الاردن لقبول بقرار قمة الجزائر فوافق الملك حسين. وكان مهندس ذلك التقارب ملك المغرب حسن الثاني. اما موقف “أبو نشأت” فقد ذكره بوضوح حين أعلن عدم موافقته فك الارتباط بين الاردن والضفة، وهو ما كانت قررته قمة الجزائر.
فلسطين والنكبة المستمرة منذ عشرات السنوات.. ومنذ الثورة في الثلاثينات من القرن الماضي والتي قُتل فيها مئات الآلاف من هذا الشعب العظيم وما زال يقتل.. لكنه ما زال صامداً لقد أصبح هذا الشعب أسطورة لجميع شعوب العالم، وستبقى فلسطين جنّته التي يحلم بها.
عوني الكعكي