بقلم جان عزيز
«اساس ميديا»
منذ مدّة ليست بقصيرة، باتت الحرب معلنة بوضوح بين “دولة الحزب” في بيروت، و”دولة الآخرين” فيها.
لكن في الأيام الأخيرة لجأت هذه المواجهة إلى استخدام أسلحة نوعية، من قضيّة رياض سلامة إلى الصراع حول عمل مجلس الوزراء، ومن الكلام عن تصعيد كبير في الجنوب وانتهاء بإرهاصات تطال وجود النظام اللبناني برمّته.
هكذا يصف دبلوماسيٌّ خبيرٌ بأوضاع لبنان هذه الأيام قبل أن يُسهب بالتفاصيل والوقائع المنذرة بأكثر من خطر.
يستعرض دبلوماسي غربي معتمد في بيروت، ومراقبٌ لأحداثها، مقاربةً شاملة لما يحصل منذ نحو سنتين حتى اليوم، وإلى الغد القريب والمتوسّط المدى.
يبدأ قراءته بالجزم أنّه منذ الشغور الرئاسي على الأقلّ، قبل سنتين ناقصتين شهراً ونيّفاً، اندلعت مواجهة جديدة بين “الحزب وخصومه” في لبنان على خلفية السيطرة على هذا الموقع الأساسي في تركيبة الحكم.
حشد الطرفان قواهما كاملة. لكنّهما اقتنعا بعد أشهر، وتحديداً بعد آخر جلسة انتخابية رئاسية، في 14 حزيران 2023، بأنّهما تعادلا سلبياً في هذا السباق.
بعدها جاء “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، فعاد السباق مجدّداً إلى حماوة استثنائية. راهن “الحزب” على انتصار محوره أو على الأقلّ على أنّ وهج غزّة سيبلغ المنطقة كلّها، وضمنها لبنان حتماً.
فيما راهن خصومه على العكس: أنّ المحور لن يخرج رابحاً، وأنّ التوازن العربي مع إيران لن يسمح لأذرع الملالي باستثمار دماء الفلسطينيين في لبنان.
التّعادل السّلبيّ يتكرّر
بعد سنة ناقصة أقلّ من شهر على تلك الحرب، اقتنع “الحزب”، كما خصومه، بالتعادل السلبي مجدّداً في مباراة “من يربح من مآسي مليون منكوب غزّيّ”.
على مدى أسابيع قليلة، بدا لوهلة أنّ الفريقين قد استكانا. هدأت اللهجات. وتراجعت الخطابات الغدديّة. وظهر وكأنّ هناك من يحضّر ناسه للنزول عن أشجار الأوهام، من الطرفين.
وإذ سُجّلت فجأة في بيروت تطوّرات مغايرة.
يستعرضها الدبلوماسي نفسه ضمن مجموعتين: مجموعة التطوّرات التي تخدم خطاب “دولة الحزب” وأهدافه. في مقابل مجموعة تطوّراتٍ تساهم أكثر في ترجيح خطاب “دولة الآخرين”، كلّ الآخرين المعارضين لمشروع “الحزب” في بيروت.
في المجموعة الأولى، أوّلاً، يظهر ويستمرّ منذ سنتين، الشغور الرئاسي المتمادي، مع شبه إصرار على منع انتخاب رئيس. وهو ما بات جليّاً في مواقف دولة “الحزب”، بحسب القراءة الدبلوماسية المذكورة.
مسألة كان قد بدأ يعتادها الجميع إلى أن أُضيف إليها أخيراً تطوّرٌ بارز وخطير مع بدء الكلام عن مصير الانتخابات النيابية المفترضة في ربيع 2026، أي بعد أكثر من سنة ونصف من الآن.
ليست المسألة الفعليّة ههنا تفاصيل القانون الانتخابي ولا الآلية التنفيذية اللازمة لإجراء انتخابات تشريعية مع حكومة مستقيلة. بل جوهر التطوّر الجديد هو الإيحاءُ بتكرار سيناريو 1988 – 1990. وهو سيناريو مختلف عن سلسلة التمديدات الأخيرة للبرلمان اللبناني منذ 11 عاماً.
في أيار 2013 مدّد المجلس لنفسه. ولم تكن هناك حكومة مكتملة الصلاحيات دستورياً. لكن كان هناك رئيسٌ للجمهورية.
في المرّة الثانية في تشرين الثاني 2014، لم يكن هناك رئيس. لكن كانت هناك حكومة دستورية.
الحزب يهدّد “النّظام” بأكمله
الآن يجري التلميح إلى سيناريو مختلف: لا رئيس. ولا حكومة بصلاحيات دستورية. ومع عطبيهما عطبٌ ثالث هو أن لا برلمان مكتمل الشرعية.
وهو ما يترافق مع تهويلات أخرى تشي بها الحملة المستأنفة على قيادة الجيش بشكل أساسي. الأمر الذي يوحي بتهويل “الحزب” على “الآخرين” بمعادلة بسيطة: معكم من الآن حتى أشهر قليلة مقبلة، نحن من يحدّد عددها ومددها، فإمّا أن تقبلوا خلال هذه الفترة بشروطنا لمعادلة السلطة الجديدة في لبنان، رئاسة وحكومة وإدارة دولتية أساسية، وإمّا نذهب نحن وأنتم إلى فراغ كامل أو فوضى مطلقة أو “كايوس”، بالمعنى الفلسفي أو “المورفيّ” للمفهوم، نسبة طبعاً إلى معادلة ريتشارد مورفي قبل عقود. إذا لم تقبلوا شروطنا ومرشّحينا، نذهب معاً إلى لحظة وشيكة، يسقط فيها كلّ ما يرمز إلى دولة لبنان ليصير المسار الإلزامي لإعادة تكوينها هو الذهاب حتماً إلى “مؤتمر تأسيسي” يُعيد صياغة النظام وأسسه وموازين الشراكة في سلطاته ومندرجات دستوره، تماماً كما حصل بين عامَي 1989 و1990.
وهو ما يعني ببساطة مختصرة، وبظلّ موازين القوى الداخلية المعروفة، والخارجية المنشودة، إنهاء الطائف الحالي، والذهاب تدريجياً إلى “طائف شيعيّ” شكلاً، لكنّه “طائف حزبلّاهيّ” فعلاً!
رياض سلامة وتحريك الشّارع
في المقابل، ودائماً وفق نظرية الدبلوماسي نفسه، برزت تطوّرات مغايرة.
أوّلها وفجأة أيضاً، توقيف رياض سلامة في توقيت لم تنجلِ ملابساته الكاملة بعد على الرغم من كلّ ما قيل ويُحكى.
بعده نزاع كبير مفاجئ أيضاً بين الحكومة والعسكريين على قضايا مطلبية مختلفة، بشكل متزامن مع مزيد من تحلّل الاستقرار العامّ وتنامي ظواهر الفوضى على الأرض.
هذه التطوّرات ظهر بوضوح أنّها لا يمكن أن تظلّ بمنأى عن نبض الشارع الذي بدأ يستعيد حراكه تدريجياً وكأنّ هناك من قرّر إعادة وقده بحطب الغضب والثورة المشروعة والمحقّة، عشيّة الذكرى الخامسة لانتفاضته في 17 تشرين.
فقضيّة رياض سلامة أعادت مجموعات الثورة إلى قصر العدل.
وقضيّة المتقاعدين أعادت “رفاقهم” في الانتفاضة إلى وسط بيروت. فيما حكومة ميقاتي مصرّة، لسبب غريب عجيب، على استفزازهم أكثر، بتهريب جلسة حكومية استثنائية شبه سرّية، بجدول أعمال أقلّ من عاديّ أو حتى لا لزوم له!
الحرب بين الحزب والآخرين
هكذا صارت الصورة وكأنّ الحرب بين “الدولتين” قد قفزت إلى مستوى أعلى:
“دولة الحزب” تهدّد بإسقاط النظام برمّته.
و”دولة الآخرين” تهدّد بالمقابل بإعادة إشعال الشارع.
“دولة الحزب” تخشى الشارع. وهي خبرته قبل 5 أعوام. وتدرك أنّه يوحّد غالبية لبنانية كبيرة ضدّها.
لذلك تتجنّبه. بل تتجاهله كليّاً. حتى إنّه لم يصدر صوتٌ واحد بكلمة واحدة منها، تعليقاً على توقيف سلامة، ولا على قضية المتقاعدين.
فيما سُجّلت خطوة غير مسبوقة كليّاً، ألا وهي توزيع جدول تفصيليّ مسهب حتى الملل عن أرقام المساعدات التي قدّمتها “دولة الحزب” لشارعها، من “حصص غذائية وهدايا ماليّة ومساعدات مختلفة”، حتى تعويضات الأثاث التالف والحيوانات النافقة!
ما يؤكّد رعب تلك “الدولة” من الشارع وعملها الاستباقي لاحتواء غضبه.
فيما “دولة الآخرين” تخشى بالمقابل سقوط آخر معالم الدولة اللبنانية الحالية، وترتعب من أنّ سقوطها قد يفتح الباب على بازار أميركي إيراني لن يكون لمصلحة هذه الدولة بالذات.
هكذا تبدو المعادلة واضحة: “دولة الحزب” تفكّر وتقول وتتصرّف عملياً: نهدّدكم بإسقاط نظامكم، وبالتالي الذهاب إلى نظام آخر يلائمنا أكثر.
فيما “دولة الآخرين” تردّ بالقول: نهدّدكم بإعادة تحريك الشارع، حيث مقتلكم بمواجهة جوع الناس وقهرهم وبؤسهم، ومآسيهم التي تُفاقمُها “دولتكم”، بعدما تسبّبت بها دولة منظومتكم.
هو نزالٌ خطير تشهده الساحة اللبنانية على طريقة الرقص، لا على حافة الهاوية، بل في أشدّ منزلقاتها حدّة.
نزالٌ يمكن أن يُفضي إلى يقظة ما، واستعادة بعض عقلانيةٍ حيال ما يجري.
لكنّه يمكن أن يُضاعف عوارض الجنون المستشري في البلد برمّته.
جان عزيز