“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال ورئيسها لاستطلاع علامات أولى لهذا اليوم. فالحكومة تعمل بتصدّع منذ تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية، وهو ما يجعلها عرجاء تقوم مقام غائب، وتعمل تحت النار منذ أن قرّر “الحزب”، بتعليمات من خارج لبنان وصلاحيّات حكومته وبرلمانه، جرّ لبنان واللبنانيين جميعاً إلى حرب لم يعرفوا مثيلاً لها في تاريخهم.

ينسحب الأمر على كلّ القوى السياسية في البلد. وما يصدر من مواقف متقدّمة، حتى تلك الاستقلالية، السيادية، المفرطة، لا يؤسّس لسلوك “دولة” تتقاطع داخله كلّ تيّارات لبنان وطوائفه. فقد “تحالف 14 آذار”، الذي رفع عام 2005 لواء الدولة والاستقلال ومعارضة الوصاية ومخلّفاتها الباقية، وحدته وعصبيّته وقاسمه المشترك، وتبدو مكوّناته عشوائية الموقف والرأي والقرار.

لا يصدّق لبنان أنّه غادر مرحلة ويدخل مرحلة جديدة وجب تبديد غموضها. وحده “الحزب” أدرك ذلك جيّداً. والأرجح أنّ هذا الاستنتاج ليس من بنات أفكار قادته الجدد، وهو الذي لم يستطع في حضور قادته الكبار الراحلين إجادة قراءة لبنان وصيغة عيشه وتعقّد واقعه. وكما أنّ التعليمات تأتيه من وراء الحدود، فإنّ طهران التي توجّهت قبل أيام إلى يهود العالم بـ”شالوم” أطلقتها واجهة محمد جواد ظريف السمحة، أبلغت حزبها في لبنان بأن يسارع إلى الالتحاق بقطار جديد يتحرّك.

تحوُّل وانزياح

تُظهر بعض المنابر التي درجت على الدفاع عن الحزب والترويج لخطابه شيئاً من التحوّل والانزياح. يقرّ بعضها بأنّ طهران وحزبها أساءا قراءة الصراع. وفيما يُراد لهذه “الندامة” أن تبدو إقراراً بـ”مخالفة سير” عرضية، فإنّ ما صدر عن الأمين العامّ للحزب، الشيخ نعيم قاسم، بدا تبرّعاً بتقديم ترياق فيه كثير من المنّة وجرعات من الكرم والتسامح في القبول بدستور لبنان و”طائفه” والعملية السياسية التي تنظّم ديمقراطيّته. بمعنى آخر، لا يقدّم قاسم مدخلاً يؤسّس لـ”لبنان جديد”، بل خريطة طريق لحزبه لصناعة هذا “الجديد”.

يفتح “الحزب” صفحة لا يستأذن اللبنانيين في توقيتها. يشبه الأمر حلّ “إشكال” هامشي، على طريقة “تبويس اللحى” و”لمّ” الموضوع و”لفلفة” حيثيّاته. يبدو “الحزب”، في مطالعة قاسم، داعياً اللبنانيين إلى الالتحاق بدولته الجديدة كمدخل لدولتهم المتوخّاة. ولئن يبشّرهم، ضمناً، بأنّه لن يستقوي عليهم بالسلاح (حتى هذا ليس مؤكّداً)، مستعيناً عليهم بالتمثيل الشعبي، فإنّه يطالبهم جميعاً باعتبار “الحزب” قدراً عليهم لا يضعفه ما جرّه من كوارث على البلد وعلى التمثيل الشعبي الذي يتحصّن خلفه.

أين المحاسبة؟

لا يمكن طيّ صفحة من دون محاسبة للكارثة التي تمتدّ لعقود أسباب ومسبّب. تمّ قتل الدولة وإضعاف الجيش ومصادرة قرار البلد وقدرات أجهزته وإدارته من قبل منظومة قادها “الحزب” وفرض وجهتها بما يكرّس تفوّق دويلته. ووفق النقاط الأربع التي وُصفت بالتاريخية في مطالعة قاسم التأسيسية، فإنّه مطلوب وفقها، ومن أجل فتح صفحة جديدة، إغلاق كلّ الصفحات، ابتداء من اغتيالات طالت رفيق الحريري حتى لقمان سليم مروراً بمجموعة من نخب لبنان، انتهاء بالكارثة التي حلّت بالبلد في حربه الراهنة المتناسلة من سلالة حرب عام 2006.

المطلوب أيضاً أن يبقى “الحزب” ناظماً لراهن ومستقبل الشيعة في البلد، وأن يسوّق للّبنانيين، وهو المنظّمة الأمنيّة العسكرية، أنّه تحوّل، بين ليلة في إيران وضحاها في لبنان، إلى حزب سياسي كامل الأوصاف يؤمن بالديمقراطية والسياقات الدستورية التي كان يعتبرها خارجة عن أدبيّاته ومنافذ غاياته.

يذهب قاسم في إحدى نقاط ذلك التحوّل إلى مستوى رفيع من التواضع. يقول: “سنبني معاً بالتعاون مع الدولة وكلّ الشرفاء والدول والقوى التي ستساعد من أجل إعادة الإعمار، ليعود كلّ لبنان أجمل”، بما يعني أنّ حزبه هو الأصل، فيما البقيّة عوامل طارئة يقبل التعاون معها.

يذهب بعض المتفائلين إلى الانتعاش بالتحوّلات التي يُقدم عليها “الحزب”. أحد التقديرات يراه انتقل من مرحلة التنظيم العسكري الذي يمتلك جناحاً سياسياً إلى مرحلة الحزب السياسي الذي يمتلك جناحاً عسكرياً. وفي التقدير المغتبط إقرار بعاديّة أن يمتلك هذا الحزب السياسي بالذات، في المرحلة التي يبشّر بها، جناحاً عسكرياً مواكباً. وفيما يدلي “الحزب” لبلد تحت الحرب والخراب بدلو يخاله مغيّراً للتوازنات في العالم، فإنّ الرجل وحزبه أساءا، من جديد، قراءة المشهد الكبير، أو أنّهما، وطهران من ورائهما، يدركان جيّداً جسارة الموقف ونهائيّته، ويستبقانه بتشاطرٍ لإغراء اللبنانيين بسماحة الحزب في قبول لبنانهم.

تموضع جديد

لا يلُام “الحزب” في سعيه إلى التموضع الجديد. لا يمتلك في خزائنه وتجاربه غير تلك المكيافلّيّة التي أجادها للتأقلم مع كلّ مرحلة. كان نادى بإقامة دولة إسلامية تكون جزءاً من الجمهورية الإسلامية بقيادة الوليّ الفقيه.

كان قَبِلَ لاحقاً بالتعامل مع نظام البلد السياسي والانخراط في حكومته وبرلمانه. وهو مستعدّ هذه الأيّام لارتداء ما يضمن ديمومته وبقاءه داخل نظام “الطائف” وتحت سقفه. والمفارقة أنّ خطاب “الحزب” الجديد قد يجذب داخل الطائفة الشيعية مريدين، حتى ممّن عارضوه سابقاً، ذلك أنّ “الحزب” تمكّن خلال عقود وجوده من إقناع كثير منهم، وهم طائفة مؤسّسة للبلد، وتاريخها سابق بقرون على تاريخ “الحزب”، بأنّ مصيرها بات رهن مصيره ومصير الولاية في طهران والنظام في دمشق و”الأنصار” في صنعاء.

أطلّ “الحزب” باكراً، متسلّحاً بما كشفه علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد، من أنّ الحزب “لم يستخدم أسلحته المهمّة بعد”، ليقترح “اليوم التالي”، بالمقابل، على بقيّة أحزاب لبنان وتيّاراته وقادة نخبه أن يلتقطوا اللحظة التي يعيشها العالم ويوفّرها اهتمام العواصم بمستقبله.

لئن تهتمّ نصوص الاتّفاقات بتفاصيل ذلك “اليوم” جنوب الليطاني، فإنّ “الحزب” يدقّ أبواب هذا اليوم بالذات في شماله، لعلّ في صدى “الأسلحة المهمّة المجهولة غير المستخدمة”، ما يبقي ذلك الشمال طيّعاً للحزب في طبعته الجديدة. والأرجح أنّ “الحزب” سيظهر وجهاً صبوحاً إلى أن يسأله اللبنانيون ذات صباح سؤالاً واضحاً: ما مصير السلاح؟

محمد قواص

التعليقات (0)
إضافة تعليق