“التّسونامي” السّياسيّ وعصا السّنوار

بقلم هشام عليوان

«اساس ميديا»

هل يتوقّف “تسونامي” التغيير في المنطقة مع وقف إطلاق النار في غزة؟ الأرجح أنّ القطار لن يتوقّف قبل استنفاد “الميكانيزم” الذي أطلقته عملية “طوفان الأقصى”. لقد هزّ هجوم حماس قواعد راسخة في النظام الإقليمي، فأسقطها. وبسقوطها سقطت أشياء كثيرة، وتغيّر وجه المنطقة. وليس متوقّعاً أن تهدأ العاصفة قريباً.

 أثر الفراشة

في عام 1972، طرح عالم المناخ الأميركي إدوارد لورنز Edward Lorenz (توفّي عام 2008)، السؤال المثير التالي: “هل يمكن لرفرفة جناحَي فراشة في البرازيل أن تسبّب إعصاراً في تكساس؟”، وذلك في محاضرة له في اللقاء الـ139 للجمعية الأميركية لتقّدم العلم، في واشنطن.

من هذا السؤال، انتشرت عبارة: “أثر الفراشة Butterfly Effect”. وانتقل مجال استعمالها من دراسة تقلّبات الطقس، واحتمالات التنبّؤ به، إلى كلّ المجالات الإنسانية من طروحات سياسية، وسياقات حربية، ومؤشّرات اقتصادية، وحراكات اجتماعية. وهي تعني بكلّ بساطة، أنّه مهما بلغت دقّة دراسة المتغيّرات، يمكن أن يكون لحدث صغير جدّاً، أثر هائل غير متوقّع أبداً في مكان بعيد.

وكمثال ينطبق تماماً على المعادلة المذكورة، يمكن تذكّر الأثر الهائل لـ”صفعة فاطمة حمدي”، التي أشعلت كلّ العالم العربي منذ عام 2010، حتى الأمس القريب، نهاية العام الماضي. ففي 17 كانون الأوّل من ذاك العام، تلقّى الشابّ التونسي محمد البوعزيزي (26 عاماً)، صفعة الشرطيّة فاطمة حمدي بسبب منعه من بيع الخُضَر والفواكه على قارعة الطريق دون ترخيص بلدي. ولم تكن تلك الصفعة إلّا كرفرفة جناحَي فراشة، التي ولّدت الأعاصير. البوعزيزي أصبح من أشهر شباب العصر، وكرّمه التونسيون وكلّ أنصار الربيع العربي، ليس لأنّه أشعل النار في نفسه، وقضى بعد أيّام متأثّراً بحروقه، بل لأنّ الردّ العنيف جدّاً وغير المتوقّع من بائع متجوّل، بإحراق نفسه أمام المارّة، قد أشعل النار في العالم العربي، فكان تساقط رؤساء راسخين في السلطة، وفي الدول العربية الأكثر استقراراً، وآخرها بشار الأسد في سوريا.

إذلال إسرائيل في 7 أكتوبر

بالمقارنة، فإنّ هجوم حركة حماس في السابع من تشرين الأوّل عام 2023، أكبر بكثير جدّاً من صفعة فاطمة. لكن كما شعر البوعزيزي بالإذلال الذي لا يُطاق، فانتحر محترقاً، شعرت إسرائيل كلّها بالإذلال بل بالرعب من هجوم حماس، وهو ما لم يسبق لإسرائيل أن شعرت به منذ إعلان دولتها عام 1948. وبما يتجاوز ما شعرت به قبل نصف قرن من الحادثة على يد الجيش المصري العرمرم الذي عبر خط بارليف في 6 تشرين الأوّل 1973. ففي حالة غزة، كان الإذلال أشدّ لأنّ أداته حركة مسلّحة صغيرة، ومحدودة الموارد، ومحاصرة في شريط ساحلي ضيّق، ومنتشرة في أرض منبسطة خالية من تضاريس حصينة. لقد تجاوزت حماس السور الواقي المجهّز بكلّ أدوات الرقابة والترصّد، وتغلّبت على فرقة غزّة، اقتحمت مراكزها المنيعة، وقتلت أو تسبّبت بمقتل أكثر من 1,200 إسرائيلي بين جندي ومدني، خلال ساعات فقط. فكان الردّ الإسرائيلي ليس أقلّ من الانتحار الجماعي بإطلاق حرب إبادة وتنظيم محرقة حقيقية للشعب الفلسطيني في غزة. ومن دون أن تتمكّن بعد 15 شهراً من القتال المتواصل، من القضاء عسكرياً على هذا التنظيم الذي أذلّها أشدّ الإذلال.

والأكثر إدهاشاً من التأثيرات العميقة لهجوم حماس على إسرائيل، عبر استغلال عوامل إسرائيلية ظرفيّة، وهي: الاسترخاء الأمنيّ، والانقسام الداخلي، والانشغال بخطط القضاء على “الحزب” في الشمال، والتربّص بالمشروع النووي الإيراني… هو التداعيات الهائلة وغير المقصودة لقرار يحيى السنوار، وهو أسير سابق، شنّ هجوم محدود، هدفه المباشر، إطلاق سراح رفاقه الأسرى من سجون إسرائيل، من خلال اختطاف أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين، بهجوم خاطف ومُحكَم.

ما لم يتوقّعه السّنوار

ربّما لم يتوقّع السنوار إطلاقاً أن تتوغّل قوات النخبة في حركة حماس إلى هذا العمق بسهولة مفرطة. ولا أن تتسبّب بسقوط هذا العدد الكبير من الجنود والمدنيين الإسرائيليين. ولا أن يكون للتغطية الإعلامية الواسعة للعملية ومشاهد القتل في مواقع الجيش الإسرائيلي، وجرّ الجنود من آليّاتهم ودبّاباتهم بهذه الطريقة الاستفزازية، هذا الأثر المضاعف في الرأي العامّ المحلّي والعالمي. ولا أن يُهرع الغرب لإنقاذ إسرائيل بهذا التصميم والاندفاع، ولو أدّى إلى مجزرة هائلة في القطاع.

لم يتوقّع أيضاً:

– انهيار منظومة القيادة في “الحزب” بهذه السرعة.

– ولا سقوط بشار الأسد في 11 يوماً. ولا تبديل وجه لبنان، والتوازنات السياسية فيه، بعد سلسلة متلاحقة من الضربات الإسرائيلية، الأمنية والعسكرية البالغة الدقّة.

– ولا أن يتهاوى محور المقاومة كلّه بعدما تفكّك تلقائياً باستهداف مركز الثقل في الضاحية الجنوبية لبيروت.

– ولا أن يُقتل الرئيس الإيراني ووزير خارجيّته الصاعد في عالم الدبلوماسية، في عملية غامضة وغير مفهومة حتّى اليوم.

– ولا أن يُغتال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، وهو نائم في إحدى غرف الحرس الثوري الإيراني.

– ولا أن ينام أبو محمد الجولاني في القصر الجمهوري مكان بشار الأسد. ولا أن يخلع العمامة ويلبس بذلة رسمية، ويتقاطر إليه المسؤولون من أنحاء العالم للتعرّف عليه عن كثب.

– ولم ينجُ الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه من لعنة غزة، بسبب دعمه إسرائيل، فحدث الانقسام داخل الحزب الديمقراطي كنتيجة من نتائج الحرب في غزة، واضطرّ مرغماً إلى الانسحاب من المعركة الانتخابية، وتسليم المهمّة على مضض إلى نائبته كامالا هاريس، قبل أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

– بالمقابل، حقّق الرئيس السابق دونالد ترامب، المُدان جنائياً في المحاكم الأميركية، الأعجوبة الانتخابية، على الرغم من محاولتَي اغتيال. ويعود مظّفراً إلى البيت الأبيض رغم أنف الدولة العميقة.

– ولم يتوقّع أحد أيضاً من ترامب أن يردّ الجميل إلى غزة، التي أعادته إلى السلطة، ومن دون عمد ولا قصد، بالضغط على مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، لوقف إطلاق النار في القطاع. بعد فشل بايدن في إنجاز ذلك عدّة مرّات العام الماضي.

– أمّا فلاديمير بوتين، المتّهم بأنّه الذي حذّر حركة حماس قبل “طوفان الأقصى” من خطط نتنياهو في غزة، وكان هذا من الأسباب غير المعلنة، لقرار الهجوم الحمساوي غير المنسّق لا مع إيران ولا مع “الحزب”، فقد ارتدّت كرة النار عليه في سوريا التي راهن عليها، لتكون موقع نفوذ متقدّماً في قلب العالم القديم، وقاعدة ارتكاز للعمليات المنتشرة في القارّة الإفريقية، وتحقيق حلم روسي مزمن بالوصول أخيراً إلى المياه الدافئة، في حوض البحر المتوسّط. فإذا بقاعدة حميميم في اللاذقية، مطوّقة بقوات المعارضة السورية من كلّ جانب. وبدل أن ترحل القوات الأميركية من شرق الفرات، وتبقى القوات الروسية حاكمة بأمرها في سوريا، ستنسحب القوات الأميركية بأمر من ترامب، وستملأ تركيا الفراغ الاستراتيجي برعايتها النظام الجديد في سوريا. وسواء بقيت القوات الروسية في سوريا أم لا، فسيكون ذلك من باب لزوم ما لا يلزم.

باختصار، كلّ ما كان شبه مستحيل قبل عملية 7 أكتوبر، بات ممكناً جدّاً. و”تسونامي” السنوار ما زال فعّالاً، ويجتاح المنطقة، ويؤثّر في العالم. وعملية “طوفان الأقصى”، كانت بآثارها الهائلة، أعظم بكثير جدّاً من أهدافها المباشرة. وهذه الآثار ليست أقلّ من إعادة رسم المشهد الجيوسياسي في المنطقة، توصّلاً إلى إعادة صياغة التوازنات في العالم انطلاقاً من رأس الهرم، الولايات المتحدة.

هشام عليوان