بقلم د. ابراهيم العرب
فاز حزب العمال المعارض ب 398 مقعدًا في الانتخابات البرلمانية البريطانية، مما يعني أنه يتمتع الآن بالأغلبية في مجلس العموم المؤلف من 650 مقعدًا. وتفتح هذه النتيجة الباب واسعًا أمام حزب العمال لتشكيل الحكومة المقبلة، في حين أنها تمثل هزيمة مدوية للمحافظين الذين تقلصت حصتهم من 365 نائبًا انتخبوا قبل 5 سنوات إلى 131 نائبًا فقط.
ويرجع سبب خسارة اليمين، إلى أن السنوات السابقة اتسمت بالركود الاقتصادي، وتدهور الخدمات العامة، وسلسلة من الفضائح، ما جعل المحافظين أهدافًا سهلة للمنتقدين من اليسار واليمين المتطرف. وعمومًا، فقد شهدت بريطانيا سلسلة من السنوات المضطربة، بعضها من صنع المحافظين والبعض الآخر ليس من صنع المحافظين، ما جعل العديد من الناخبين متشائمين بشأن مستقبل بلادهم. وأدى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، الذي أعقبه جائحة كوفيد-19 والاجتياح الروسي لأوكرانيا، إلى الإضرار بالاقتصاد، في حين تسببت الحفلات التي خرقت الإغلاق والتي أقامها رئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون وموظفيه في إثارة غضب واسع النطاق. وهزت خليفة جونسون، ليز تروس، الاقتصاد بشكل أكبر بحزمة من التخفيضات الضريبية الجذرية واستمرت 49 يومًا فقط في منصبها، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر وتخفيض الخدمات الحكومية إلى ظهور شكاوى من «بريطانيا المكسورة».
إنّ النتيجة هي كارثة بالنسبة للمحافظين، إذ عاقبهم الناخبون على مدى 14 عامًا من ترأسهم سياسات التقشف، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والجائحة، والفضائح السياسية، والصراع الداخلي بين المحافظين. وبذلك، فإن خسارة اليمين البريطاني كانت متوقعة سلفًا، وإن كانت تبدو متناقضة مع التحولات الانتخابية اليمينية الأخيرة في أوروبا، بما في ذلك في فرنسا وإيطاليا. حيث يلوم العديد من الناخبين البريطانيين، المحافظين على المشاكل التي تواجه بريطانيا، من تسرب مياه الصرف الصحي، وخدمة القطارات غير الموثوقة إلى أزمة تكلفة المعيشة، والجريمة، وتدفق المهاجرين الذين يعبرون قناة المانش على قوارب مطاطية. كما استنزف حزب «الإصلاح» اليميني المتطرف الأصوات من جناح اليمين، بعد انتقاده لقيادة الحزب الحاكم بسبب «فشلها في السيطرة على الهجرة». وبالتالي فإن الانقسام بين رئيس حزب الإصلاح نايجل فراج وبين حزب المحافظين قد ساعد ستارمر في زيادة أغلبيته البرلمانية.
بعد فوز حزب العمال في الانتخابات العامة في بريطانيا، يجد الحزب نفسه أمام مجموعة من التحديات الكبيرة التي تتطلب استراتيجيات مدروسة للتعامل معها؛ حيث يواجه الحزب الحاكم الجديد مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة تتطلب حلولًا فورية وفعالة. وفيما يلي نَظْرَة على أبرز التحديات والتغييرات المتوقعة.
بادئ ذي بدء، لم تعد المملكة المتحدة دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية، لاسيما أنها صرحت مؤخرًا أنها عاجزة عن مواجهة أي حرب مفتوحة مع روسيا وينقصها الأسلحة الدفاعية اللازمة لذلك، ومن ثم إنها تعاني من تدهور كبير في مواردها المالية العامة، حيث ارتفع دينها العام من 64% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2008 إلى 101% في عام 2023، ووصل عجز موازنتها إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك، فإن هذا الوضع يتطلب من حزب العمال وضع سياسات اقتصادية فعالة تركز على تحفيز النمو الاقتصادي، وخفض الدين العام، وزيادة فرص العمل. كما يتعين على الحزب مواجهة «المعضلة الثلاثية» المتمثلة في زيادة الضرائب، أو خفض الموازنات، أو زيادة الاقتراض.
كذلك، يؤثر ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير على المالية العامة ويزيد من تكاليف المعيشة للمواطنين. لذا، يحتاج حزب العمال إلى وضع سياسات لدعم الأسر ذات الدخل المنخفض وتوفير حلول مستدامة لارتفاع تكاليف الطاقة. واليوم، تواجه هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) تحديات كبيرة تشمل قوائم انتظار طويلة ونقص في الموظفين. لذا، وعد كير ستارمر بزيادة الإنفاق على نظام الصحة العامة، مما يتطلب وضع خطط فعالة لتحسين الخدمات الصحية وتخفيف الضغط على النظام. كما يهدف حزب العمال اليوم إلى خفض قوائم انتظار هيئة الخدمات الصحية الوطنية عن طريق إضافة 40 ألف موعد وعمليات إضافية كل أسبوع، وشراء المزيد من المعدات. ويتعهد الحزب بتقليص أوقات الانتظار إلى أربعة أشهر كحد أقصى، وفقاً لهدف هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
كما يواجه الحزب ارتفاع معدلات الفقر وعدم المساواة، لذا سيتبنى سياسات تهدف إلى تحسين ظروف المعيشة للأسر ذات الدخل المنخفض وتعزيز الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم؛ وسيقوم أيضًا بالتعامل مع قضايا الإسكان وتوفير سكن ملائم وبأسعار معقولة للمواطنين؛ وستتمثل السياسة الرئيسية لحزب العمال في تعيين 6500 معلم، حيث قال ستارمر في الماضي إن هؤلاء المعينين الجدد سيركزون على الموضوعات الرئيسية «لإعداد الأطفال للحياة والعمل والمستقبل»؛ ثم إن الحزب سيقوم بدفع أجور هؤلاء المعلمين من خلال خطة حزبه لإنهاء الإعفاءات الضريبية للمدارس الخاصة.
ومن ناحية أخرى، فلا تزال بريطانيا تعاني من تبعات خروجها من الاتحاد الأوروبي، مما يتطلب بناء استراتيجية طويلة المدى للتعاون مع الاتحاد الأوروبي. لذا، تعهد حزب العمال بتخفيف القيود التجارية مع الاتحاد الأوروبي ووضع اتفاقيات تجارية مستهدفة. كما سيتجه حزب العمال نحو فرض ضريبة الثروة وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى والأفراد ذوي الدخل العالي لتحقيق العدالة الضريبية؛ وسيعمل الحزب على تحسين البنية التحتية من خلال استثمارات كبيرة في قطاع النقل، والخدمات العامة، والبنية التحتية الرقمية، مما يعزز النمو الاقتصادي ويوفر فرص عمل جديدة.
أضف إلى ما تقدم، إن حزب العمال أكد على سعيه لتنفيذ سياسات بيئية فعالة لمواجهة التحديات المناخية، ويشمل ذلك تعزيز استخدام الطاقة المتجددة، وتقليل الانبعاثات الكربونية، وحماية البيئة، فعلى سبيل المثال، لقد كانت شركة Great British Energy إحدى السياسات البارزة الأولى لستارمر والتي أعلن عنها في مؤتمر حزب العمال في عام 2022، وهي سياسة أصبحت أكثر أهمية مع ارتفاع تكاليف الطاقة وَسَط الحرب في أوكرانيا؛ لذا، من المقترح أن تقوم شركة جديدة مملوكة للقطاع العام بتوفير قدرة إضافية إلى جانب القطاع الخاص للمساعدة في ترسيخ المملكة المتحدة كقوة عظمى في مجال الطاقة النظيفة؛ حيث يعتقد حزب العمال أن هذا لن يضمن أمن الطاقة على المدى الطويل فحسب، بل سيخفض الفواتير ويوفر فرص العمل أيضا.
كما سيسعى حزب العمال للعمل على معالجة الانقسامات السياسية الناتجة عن استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي وتعزيز الوحدة الوطنية، خصوصًا أن الوضع الأمني يتطلب تطوير استراتيجيات لحماية الأمن الوطني ومواجهة التهديدات المتزايدة. كما سيدعم حزب العمال زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% وسيؤكد على عدم الاستخفاف بالتحديات الأمنية، ويَعد ستارمر بتجنيد المزيد من عناصر الشرطة وفرض عقوبات جديدة صارمة على المخالفين الذين يسببون مشاكل في منطقتهم. كما سيتصدى ستارمر لعصابات سرقة المتاجر عبر السماح للشرطة بالتحقيق في السرقات التي تكون قيمتها أقل من 200 جنية استرليني.
يتبع الثلاثاء
د. ابراهيم العرب