بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
اعتلى البابا فرنسيس السدّة البابوية راهباً “جزويتيّاً” مترفّعاً عن متاع الدنيا. احتفظ بملابسه الكهنوتية المخصّصة للكارديناليّة، ورفض استخدام الملابس الخاصّة بالبابا. ورفض الإقامة في البيت المخصّص له، وأصرّ على الإقامة في الغرفة التي كان يقيم فيها في مبنى “سانتا مرتا” داخل الفاتيكان. وهو المبنى المخصّص لإقامة الكرادلة لدى انعقاد مؤتمراتهم، أو لضيوف الفاتيكان الأجانب. وقد سبق لي أن أقمتُ فيه شخصيّاً أكثر من مرّة، والتقيتُ بالبابا فرنسيس في المطعم الخاصّ داخل هذا المبنى.
فوجئ البابا فرنسيس مرّة وهو يدخل مبنى “سانتا مرتا” بوجود رجل أمن من الحرس السويسري أمام المدخل. فالبابا يعرف أنّه ليس من مهامّ الحرس السويسري، الذي يتولّى الأمن الداخلي في الفاتيكان، حراسة هذا المبنى تحديداً.
سأل البابا الجنديّ الحارس: ماذا تفعل هنا؟ أجابه: حماية البابا. قال له: لا أحتاج هنا إلى الحماية، تستطيع أن تعود إلى مقرّك. ردّ الجندي: أنا هنا أنفّذ تعليمات عسكرية، وألتزمها.
ابتسم البابا ودخل “سانتا مرتا”، حيث طلب من العاملين في المطعم تزويده سندويشاً من الجبن واللحم وكوباً من عصير الليمون، ثمّ حملهما وعاد بهما إلى الجنديّ الحارس. وكان الوقت وقت غداء. لكنّ الجنديّ قال للبابا فرنسيس: أعتذر سيّدي، فأنا لا أتناول الطعام والشراب أثناء الخدمة.
إجراءات غير مسبوقة
بهذه الخلفيّة الأخلاقية السامية، تولّى البابا فرنسيس المسؤولية في دولة الفاتيكان. لم تكن إدارة الدولة في ذلك الوقت في حالة حسنة. كان الفساد يعصف في بعض أركانها، وخاصّة في الركن الماليّ.
بموجب التنظيم الإداري، تشرف “سلطة المعلومات الماليّة” على بنك الفاتيكان، وعلى إدارة عقارات الفاتيكان في روما (خارج الأسوار)، وعلى بنك الفاتيكان وإدارته، وتشرف أيضاً على صيدليّة الفاتيكان.
كان يتولّى هذه السلطة خمسة أعضاء إيطاليّين، تنتهي مهمّتهم في عام 2026، لكنّ البابا طلب منهم الاستقالة الفوريّة، واستبدلهم بشخصيّات اختارها بنفسه، كان منهم يوفارا فيلاي، الذي أشرف على تطوير اقتصاد سنغافورة، وجوان زارات، الذي كان مستشاراً ماليّاً للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.
اتّخذ البابا هذه الإجراءات غير المسبوقة بعد صراع طويل بين هذه المجموعة من الحرس القديم والمراقب الماليّ العامّ السويسري رينيه برولارت، وهو خبير دوليّ في مكافحة التهريب وتبييض العملات. وكان بنك الفاتيكان، الذي يحتفظ بودائع تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار، تحت إشراف “الحرس القديم”، الذي ارتسمت علامات استفهام كبيرة حول معظم أفراده.
إلى ذلك اعتُقل المونسنيور ناتيو سكاراتو الذي عمل لمدّة 22 عاماً في الإدارة الماليّة للفاتيكان (تسديد الرواتب والنفقات وجمع الإيجارات والتبرّعات)، ووُجّهت إليه تهمة الفساد وتبييض الأموال. وكان يُدعى “مونسنيور الخمسمئة”، نظراً لأنّه كان يحمل دائماً أوراق الـ500 يورو لشراء الكماليّات من أسواق روما. وكان يملك ثروة من اللوحات الفنّية النادرة. وقد اتّهمته السلطات الإيطالية بتهريب الأموال إلى سويسرا، حيث أُوقف بالجرم المشهود.
كان البابا فرنسيس قد واجه مشكلة مماثلة عندما كان رئيس أساقفة الأرجنتين. فقد اكتشف أنّ خلَفه الكاردينال أنطونيو غراتسيو تورّط مع عائلة أرجنتينية تملك أحد أكبر البنوك المحلّية كانت تسدّد نفقات بطاقاته الائتمانية مقابل سكوته عن استثمارات ودائع الكنيسة لدى البنك.
هكذا خرج من الأرجنتين كاردينالاً نظيف الكفّ ليمارس دوره في السدّة البابويّة نظيف الكفّ أيضاً.
لم يكن التنظيف في الفاتيكان سهلاً. فقد تناول حتّى مرجعاً برتبة كاردينال مثل تارسيسيو بيرتون، الذي اتُّهم باستخدام 20 مليون دولار من خزينة بنك الفاتيكان لتمويل إنتاج فيلم لأحد أصدقائه.. وكان الفيلم فاشلاً.
قضايا حسّاسة
نجح البابا فرنسيس بما يتمتّع به من روحانيّة عالية ومن ترفّع عن المادّيّات في استعادة الدور الروحيّ للفاتيكان والبابا في الدرجة الأولى. ومن هنا كانت إطلالاته الانفتاحية على أهل الكنائس الأخرى (الإنجيليّة والأرثوذكسيّة)، وانفتاحه على الإسلام (زيارة الأزهر في القاهرة والنجف في بغداد)، وإعلان التضامن والتعاطف مع مسلمي الروهنغا وزيارتهم في بنغلادش، والتوقيع المشترك مع إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب على وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي.
ربّما أكثر القضايا حساسيّة التي واجهها البابا هي تلك التي تتعلّق بدور المرأة في الكنيسة، وبموقف الكنيسة من الشذوذ الجنسي.
الرئيس الأميركي السابق جو بايدن مثلاً (وهو كاثوليكي) جرؤ على الدفاع عن حقوق المثليّين، ولذلك عندما دخل الكنيسة يوم الأحد للصلاة، مُنع من تناول “القربانة المقدّسة”، وهي قطعة صغيرة من الخبز تمثّل جسد المسيح بعد اكتمال الصلاة في الكنيسة. ولكنّ البابا فرنسيس قال في هذا الشأن عبارته المشهورة: “من أنا حتّى أعرف ما في قلبه؟”.
كان البابا فرنسيس يردّد دائماً أنّه يريد كنيسة فقيرة لخدمة الفقراء. وقد عاش حياته الكهنوتية في “بوينس أيريس” ثمّ حياته البابوية في روما فقيراً في خدمة الفقراء.
تسجّل الدراسات الإحصائيّة أنّ عدد المتردّدين من المسيحيين على الكنائس الكاثوليكية تضاعف بعد مرور وقف قصير من تبوُّئه السدّة البابوية، بما في ذلك في الولايات المتحدة.
لم يخدم البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية فقط، بل وخدم المسيحية ككلّ بشكل خاصّ، وخدم الإيمان بالله بشكل عامّ كما لم يستطع أن يفعل أيّ بابا آخر (سوى البابا يوحنّا بولس الثاني).
عاش البابا فرنسيس مؤمناً متبتّلاً حتّى اللحظة الأخيرة، ومارس حبريّته على رأس الكنيسة مصلحاً جريئاً حتّى اللحظة الأخيرة أيضاً.. فهل تبادر كنيسته إلى تكريسه قدّيساً؟
محمد السماك