بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
تكثّفت في الأيام الأخيرة المواقف والتقارير التي تتحدّث عن قنبلة إيران النووية. الخبراء الدوليون يقرّون بامتلاك إيران المعرفة والإمكانات لإنتاجها. وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، على لسان مديرها رفائيل غروسي، تؤكّد هذه الحقيقة. يعلن مدير وكالة المخابرات المركزية CIA، وليام بيرنز، أنّ إيران قادرة وقريبة من صناعة القنبلة، لكن لا مؤشّرات إلى أنّها قرّرت ذلك، حسب قوله. بالمقابل تروج “ثرثرة” في طهران، منها لعشرات البرلمانيين الإيرانيين، تطالب المجلس الأعلى للأمن القومي بإعادة النظر في العقيدة الدفاعية الإيرانية، والسماح بتوفير الإمكانات اللازمة لتصنيع السلاح النووي.
في أيار الماضي أصدرت الوكالة التي يرأسها غروسي تقريراً كشف أنّ إجمالي مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60 في المئة بلغ 6,201.3 كيلوغرام. وفي تعريف الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنّ حوالي 42 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب بهذه النسبة هي الكمّية التي يمكن عندها إنتاج سلاح ذرّي واحد نظريّاً، إذا تمّ تخصيب المادّة بدرجة أكبر، إلى 90 في المئة. والأمر بات سهلاً فنيّاً في إيران ولا يحتاج إلّا إلى قرار.
الهاجس الإسرائيليّ
القنبلة النووية الإيرانية هي هاجس لازمَ ويلازم العقل الاستراتيجي الإسرائيلي. عارضت إسرائيل بشدّة اتفاق فيينا الذي أبرمته دول مجموعة الـ 5+1 مع إيران عام 2015. فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين قيوداً تقنيّة دقيقة على برنامج إيران النووي، سواء على مستوى نسبة تخصيب اليورانيوم (3.67 في المئة) أم كميّة مخزونه (300 كيلوغرام) بشكل يمنع إيران من امتلاك إمكانية تطوير ما هو مدنيّ إلى عسكري الذي يقود إلى دخول إيران “نادي” الدول النووية عسكرياً. ومع ذلك عارضت إسرائيل الاتفاق وانتقدته واعتبرته ضعيفاً لا يوفّر أيّ ضمانات صلبة لمنع إيران من تهديدها وجوديّاً، وانتقدت الموقّعين عليه.
لكنّ السياقات راحت تقودنا إلى قناعات جديدة بدأت تتجذّر لدى “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة بشأن ضعف “اتفاق فيينا”. وعد دونالد ترامب أثناء حملته للولاية الرئاسية الماضية بالإطاحة بما وصفه بـ “أسوأ اتفاق” في التاريخ وفعل ذلك عام 2018. لم يكن الأمر وليد ضغوط على ترامب مارستها إسرائيل ورئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، ساهم فيها جاريد كوشنر، صهره ومستشاره لاحقاً فقط، بل تلك “الدولة العميقة” كانت تدفع بهذا الاتجاه وتطلق من أجل ذلك “العقوبات التاريخية” التي فرضها ترامب واعداً برفعها إذا ما نفّذت إيران الشروط الـ 12 لوزير خارجيّته مايك بومبيو.
لم يكن صعباً لاحقاً استنتاج أنّ الولايات المتحدة هي التي انسحبت من الاتفاق بقرار لم يفعل ترامب إلّا الإعلان عنه، وأنّ الولايات المتحدة هي التي منعت الرئيس جو بايدن من الإيفاء بوعده الانتخابي بالعودة إلى الاتفاق في حال انتخابه. كان من المفترض، وفق تلك الوعود، أن يُعيد بلاده إلى اتفاق بمرسوم يصدر عن البيت الأبيض على منوال ما فعل سلفه بالانسحاب من الاتفاق بمرسوم. وكان على الولايات المتحدة أن تمرّر جولات من التفاوض العقيم، حتى تستنتج إيران أنّ واشنطن تعتبر الاتفاق الذي توصّل إليه فريق التفاوض في إدارة الرئيس باراك أوباما “سيّئاً” ولا عودة إلى “آثامه”.
رؤيتان لمواجهة إيران
طوّرت إسرائيل قراءاتها لعملية “طوفان الأقصى” وما بعدها. وفق هذه القراءات الخبيثة رفعت مستوى أدوات المواجهة والردع. في النسخة التي يروّجها نتنياهو، فإنّ الحروب ضدّ إسرائيل مصدرها إيران وتجري بتعليمات وإمكانات واستراتيجيات مصدرها طهران. وفي الطبيعة المثلى للتعامل مع هذا التشخيص مدرستان:
– الأولى تدعو إلى التعامل على نحو جذري اجتثاثيّ شامل مع “أذرع” إيران جميعها من اليمن إلى العراق مروراً بسوريا ولبنان بعد غزّة، وهو ما من شأنه دفع إيران للانكفاء داخل حدودها وإيجاد تفاهمات جديدة معها.
– الثانية تدعو إلى عدم استنزاف القوّة والوقت في مكافحة “الأذرع” وتركيز الجهد على ضرب “الرأس”، بما يعني الإطاحة بإيران نظاماً وسياسة وخيارات استراتيجية.
وبين المدرستين حسابات داخلية وخارجية من الصعب ضبط كلّ تداعياتها.
غير أنّ ما قامت به إسرائيل في اغتيال الأمين العام للحزب، السيّد حسن نصرالله، يكشف أنّ لمدارس إسرائيل امتدادات داخل العقل الاستراتيجي في الولايات المتحدة. وبغضّ النظر عن “الحرد” الذي تنشره صحافة واشنطن من مغبّة عدم إعلام إسرائيل إدارة بايدن بالاغتيال مسبقاً، فإنّ في مباركة واشنطن لاغتيال إبراهيم عقيل وفؤاد شكر وغيرهما واعتبار بايدن أنّ اغتيال نصرالله “يحقّق العدل لضحاياه”، كشفاً عن تحوّل في خطط “الدولة العميقة” حيال “الأذرع والرأس” معاً، وعن أنّ إسرائيل في ورشتها الشرق الأوسطية تتقاطع مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وخصوصاً في العالم، لا سيما في مواجهة روسيا والصين حليفَي إيران.
ليست إسرائيل وحدها من أدركت هذا التحوّل في الولايات المتحدة المتخلّصة من أوباميّة صارت متقادمة. إيران أيضاً أدركت الأمر جيّداً وأعدّت له قبل أشهر على النحو الذي دفع إلى ارتجال انتخاب مسعود بزشكيان رئيساً يحمل معه وصايا الاعتدال والإصلاح والانفتاح على الغرب عامة و”الأخوّة” في الولايات المتحدة خاصة. أدركت طهران لاحقاً أنّها باتت في موقع دفاعي صعب بعد التجرّؤ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في قلب طهران. استفاقت إيران على واقع مرعب في اضطرارها إلى خوض الحرب بنفسها ليس دفاعاً عن صيت وسمعة فقط، لكن أيضاً دفاعاً عن وجودية النظام واستمراره. سقطت الأذرع بسقوط “سيّد المقاومة” في لبنان وباتت إيران تتحسّس رأسها.
طهران متوتّرة
تقف طهران في لحظة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979. تتصرّف بتوتّر شديد في قفز وزير خارجيّتها بين عواصم المنطقة منادياً بالسلم متحرّياً المخارج والتشاور. ترتجف ثوابت “الثورة” التي يسهر الوليّ الفقيه على حراستها. ينتقل المرشد برشاقة بين “الصبر الاستراتيجي” و”التراجع التكتيكي” في طهران وتوسّل “الصمود” من بيروت. وفيما تتوعّد منابر طهران برفع الخطوط الحمر، فإنّ كلّ مؤسّسات نظامها تتوجّس من خطوط دولية حمر قد رفعت.
تسرّب واشنطن فجأة إقراراً بليداً بأنّها لا تستطيع ردع إسرائيل وتلافي مكائدها. صحيح أنّ بايدن يعترض على المسّ بالمنشآت النووية ويكاد يتمنّى تجنّب تلك النفطيّة، لكنّ طهران تقرأ في مظاهر التبرّم الأميركي من “قدرها” مع إسرائيل ما قد يدفع نتنياهو والأرجح دولة أميركا العميقة معه إلى الخيار العدميّ الكبير. وهو احتمال تُعِدُّ له واشنطن بتزويد إسرائيل بمنظومة “ثاد” الصاروخية المتطوّرة على أن تشغّلها طواقم أميركية من ألف جندي يستغرق وصولهم جميعاً أسبوعاً. وفق هذه الوقائع تتحضّر المنطقة وإيران ساعة بعد ساعة لتحوّلات يُخشى أن لا تكون محسوبة تفسّر شغباً صينياً مفاجئاً حول تايوان.
محمد قواص