بقلم حسن فحص
«أساس ميديا»
بعد الضربات المتلاحقة التي وجّهتها آلة الحرب الإسرائيلية للجسم القيادي في “الحزب”، والتي أخذت مساراً تصاعديّاً وجذرياً منذ شهر آب 2024 باغتيال قائد أركان “الحزب” فؤاد شكر، وصولاً إلى اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله، بدأت أوساط مقرّبة من الأجهزة الإيرانية الترويج لسرديّة تقول إنّ القيادة الإيرانية طلبت من الأمين العامّ لـ”الحزب” مبكراً، أي مع بداية عمليّة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، عدم الذهاب إلى التصعيد، وعدم فتح معركة الإسناد التي بدأت فجر اليوم الثاني لعمليّة حماس.
قد تكون هذه السرديّة منسجمة مع الموقف الذي سارع المرشد الأعلى إلى إعلانه بعد ثلاثة أيّام من الطوفان، في خطاب مطوّل أمام خرّيجي الكلّية العسكرية في القوّات المسلّحة الإيرانية، وحاول فيه توجيه رسائل، خاصة للجانب الأميركي، بتأكيد عدم التدخّل الإيراني في قرار حماس شنّ هذه العملية، فيصبح من الطبيعي والسهل الترويج لسرديّة أنّ إيران وقيادتها لم تكونا موافقتين على قرار “الحزب” فتح جبهة الإسناد في لبنان. وهذا يعني أنّ هذا القرار جاء نتيجة قراءة خاصّة للأمين العامّ لـ”الحزب”، من دون الأخذ بالنصيحة الإيرانية، حسب هذه الرواية، خاصة أنّ طهران كانت تستعدّ لعقد لقاء تفاوضي مع الإدارة الأميركية للتفاهم على آليّة العودة إلى طاولة التفاوض من أجل إحياء الاتّفاق النووي ووقف العقوبات الاقتصادية، وهو ما كشفه مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف في لقاء حواريّ مع الصحافي الأميركي فريد زكريا على هامش مؤتمر دافوس.
قد تؤكّد المعطيات الميدانية والقرار المفاجئ لحركة حماس شنّ عمليّة طوفان الأقصى تفرّدَ قيادة حماس في الداخل بهذا القرار، خاصة رئيسها في قطاع غزة حينها يحيى السنوار، من دون التشاور مع قيادات المحور الإيراني في المنطقة، ومن دون التنسيق مع أركان جبهة وحدة الساحات. وهكذا جاء قرار “الحزب” على الساحة اللبنانية وإعلان فتح جبهة إسناد محدودة على الجبهة اللبنانية بناء على معطيات متشابكة وتقديرات قيادات “الحزب” لتعقيدات الوضع الداخلي اللبناني، ومن هنا اختيار منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مسرحاً للعمليات لأنّها تسمح بفتح هذه الجبهة التي تشكّل منطقة “فراغ” في القرار 1701، الذي قضى بوقف الأعمال القتالية بين “الحزب” وتل أبيب، وتسمح له بالإبقاء على التصعيد في حدود معقولة، مع العمل على عدم إعطاء الذريعة للجانب الإسرائيلي للتوسّع.
سرديّة مختلفة
في مقابل السردية الإيرانية التي روّجت لإصرار الأمين العامّ لـ”الحزب” على فتح الجبهة اللبنانية على العكس من الإرادة الإيرانية، فانّ مسار الأحداث وتطوّراتها يفتح الباب أمام سرديّة مختلفة لا تلغي قرار “الحزب” فتح هذه الجبهة، لكنّها تتعارض مع السردية الإيرانية في تحميل الأمين العامّ لـ”الحزب” مسؤولية قرار المعركة.
احتجاب السيّد نصرالله لنحو شهر بعد بدء معركة الإسناد عن الظهور أمام جمهوره قد يشكّل مؤشّراً واضحاً إلى وجود تعارض بين رؤيته لأبعاد هذه المعركة ورؤية الجانب الإيراني، الذي قد يكون مارس ضغوطاً عليه لفتح الجبهة. وعلى الرغم من الترويج الكبير الذي رافق الخطاب الأوّل للسيّد نصرالله، وحالة الانتظار والترقّب التي سادت في أوساط قوى المحور الإيراني في كلّ ساحاته في لبنان والعراق واليمن وحتى فلسطين، تمحور الخطاب حينها حول تقديم المسوّغات التي دفعت “الحزب” لفتح جبهة الإسناد، والمخاطر التي قد يتعرّض لها لبنان في حال ترك المجال للجيش الإسرائيلي لإنهاء معركته في قطاع غزة بسرعة.
من هنا يمكن فهم الموقف الذي اتّخذته قيادة “الحزب” من الضغوط التي مارستها كلّ من طهران وحماس من أجل توسيع المعركة وفتحها على مصراعيها، خاصة مطالبة “الحزب” بشنّ هجوم يشبه هجوم طوفان الأقصى على المناطق الشمالية من فلسطين. وقد جاء الموقف الرافض لـ”الحزب” على لسان رئيس المجلس التنفيذي في “الحزب” السيّد هاشم صفي الدين خلال اللقاء الذي جمعه مع قيادة حركة حماس. حينئذٍ رفض طلبهم توسيع المعركة وتطويرها لحرب شاملة، مؤكّداً أنّ ما تشهده معركة الإسناد على الجبهة اللبنانية هو أقصى ما يمكن أن يقوم به “الحزب”، نظراً للتعقيدات الداخلية، والوضع الاقتصادي الصعب، وعدم قدرة البيئة الحاضنة لـ”الحزب” على تحمّل الأعباء التي قد تنتج عن توسيع المعركة.يبرز الاختلاف بين سرديّة “الحزب” والسردية الإيرانية بوضوح من خلال الخطابات التالية للأمين العامّ لـ”الحزب” بعد خطابه الأوّل، والمواقف التي أطلقها مع بدء المساعي الدولية، خاصة الأميركية عبر مبعوثها آموس هوكستين، والتي دعا فيها الدولة اللبنانية إلى استغلال الفرصة التي أتاحتها معركة الإسناد، لترجمتها في إعادة تفعيل اتفاقية الهدنة وترسيم الحدود اللبنانية الفلسطينية وإنهاء الخلافات حول النقاط المتنازع عليها، بدءاً من نقطة B1 في الناقورة وصولاً إلى مزارع شبعا.
فرصة لإضعاف إسرائيل
في المقابل، السردية الايرانية، التي تحاول تحميل الأمين العامّ لـ”الحزب” كامل المسؤولية عن قرار حرب الإسناد، وتكشف أنّها لم تكن راغبة بتوسيع دائرة التصعيد، لم تنجح في إبعاد المسؤولية عن القيادة الإيرانية في إدخال المنطقة في مسار تصعيدي مفتوح. وربّما الموقف الذي أعلنه السيّد نصرالله في الخطاب الذي ألقاه بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي أكّد فيه أنّ على إيران هذه المرّة الردّ مباشرة على الاعتداء الذي استهدف سيادتها وأمنها القومي، حمل إشارات واضحة توحي بوجود شكوك لديه بالرغبة الإيرانية في المبادرة إلى الردّ المباشر، خاصة عندما قطع الطريق على أيّ إمكان للردّ عبر الحلفاء، ولا سيما “الحزب” في لبنان.
إذا ما كانت منظومة السلطة في إيران قد وجدت في معركة طوفان الأقصى، ثمّ حرب الإسناد على الجبهة اللبنانية، فرصة من أجل الدفع بمشروعها الإقليمي القائم على مبدأ إضعاف إسرائيل إلى أقصى الحدود، بما يخدم رؤيتها لأن تكون شريكاً فاعلاً في القرار الإقليمي وتوظيفه على الساحة الدولية، وبالتالي الدفع باتّجاه فتح جميع الجبهات، بحيث تساعد على تحقيق هذا الهدف، فإنّ قوى المحور المنضوية ضمن مفهوم وحدة الساحات لم تكن منغمسة في هذه الرؤية، بناء على تقديراتها أنّ المرحلة لا تسمح بذلك. من هنا جاءت مشاركتها في معركة الإسناد بالحدود التي تسمح لها بالتراجع في اللحظة المناسبة.
في المقابل، كان الموقف لدى الجانب الإسرائيلي مختلفاً، إذ وجد الطريق أمامه مفتوحة للانتهاء من مصادر الخطر المحيطة به مباشرة، والانتقال إلى الهدف الرئيس المتمثّل بالنظام الإيراني والتهديد الوجودي الذي يشكّله للمشروع الإسرائيلي في الإقليم، ويمكن القول إنّه استطاع تحقيق نقاط واضحة على هذا المسار، إذ باتت ايران بعد لبنان وغزة وسوريا في دائرة الاستهداف المباشر، وأصبح عليها البحث عن تسويات للابتعاد عن الخطر وإعادة ترميم أوراقها وبناء معادلاتها على معطيات مختلفة.
حسن فحص