إلى نوّاف سلام: لا تُشكِّل حكومة أوهام

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

تحت شعار “عدم كسر أحد”، يُخشى أن يقع مسار تأليف الحكومة في وهمَي الماضي: وهم احتواء “الحزب” في 2005 وحكم التكنوقراط في 2020، وكلاهما نقلا البلد من حالة “الفرصة” إلى ما هو أسوأ من تضييعها.

عام 2005، ارتأت نخبة “14 آذار” أنّ البلد لا يتحمّل الإقصاء، وتوهّمت أنّ “الحزب” سيكون ممتنّاً لليد الممدودة إليه بعد الانسحاب السوري من لبنان، على افتراض أنّها ممدودة من موقع القوّة المستمدّة من زخم شعبي واهتمام دوليّ. فكانت الاستدارة الأولى بالتخلّي عن مطلب إسقاط رئيس الجمهورية إميل لحّود، بعدما كان التمديد له إشعاراً رسميّاً بإطلاق حرب الإلغاء السياسي والأمنيّ للقوى السيادية. ثمّ أتت الاستدارة الثانية بالتحالف الضمنيّ مع الثنائي الشيعي في الانتخابات النيابية المفصليّة، وتشكيل حكومة سياسية معه. أتاح ذلك لـ”الحزب” الإمساك بمفاصل الحياة السياسية، ابتداءً بملهاة طاولة الحوار، التي كان من المفترض أن تبحث الاستراتيجية الدفاعية، ثمّ الانفراد بقرار الذهاب إلى الحرب في تموز 2006، ثمّ تعطيل الحكومة وإغلاق مجلس النوّاب، ومحاصرة السراي الحكومي باعتصام مسلّح استمرّ حتى اجتياح بيروت في 7 أيّار 2008، ليُرسي بعد ذلك بدعاً دستورية تمثّلت بفرض الثلث المعطّل، ثمّ بالاستئثار بوزارة المالية من باب حيازة “التوقيع الثالث”.

الأخطر هو ما رسخ في الأذهان بعد ذلك. فقد انكشف أمام كلّ اللبنانيين أنّ “الحزب” المسلّح كان ضالعاً في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولا يغيّر من تلك الحقيقة أنّ نظام المحكمة الدولية (الذي خضع لمراجعة “الحزب” قبل إقراره)، لم يكن يسمح باتّهام “الحزب” بما هو تنظيم، بل أفراد ينضوون فيه. وحين انكشفت الحقيقة عاش البلد أشهراً من التهويل والوعيد العلني من “الحزب” نفسه، وكان على رئيس الحكومة حينها سعد الحريري الاختيار بين الرضوخ لإملاءاته أو إسقاط حكومته، وهو ما كان.

تثبيت الأعراف

ثمّة من يعيد السيرة ذاتها بمقولة “التفاهم” مع “الحزب” كخيار لا بديل عنه لاحتضان الطائفة الشيعية المنكوبة بآثار العدوان الإسرائيلي وبفقدان قائدها. وهي مقولة لا غبار عليها ما لم يتحوّل التفاهم إلى إعادة تكريس للأعراف التي فرضها “الحزب” بقوّة السلاح.

لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الثنائي الشيعي هو الطرف الوحيد في البلد الذي لم تتشكّل حكومة من دونه منذ عام 2005. ليس لأنّه دائماً جزء من الأكثرية، ولا لأنّه يُحسن التفاهم مع الآخرين، بل لأنّه يفرض لنفسه، بقوّة السلاح، حقّ الفيتو الميثاقي على أيّ تكوين للسلطة. للّبنانيين أن يسألوا: لماذا يمكن أن تتشكّل حكومة، أيّة حكومة، من دون تيار المستقبل أو “القوات” أو “الكتائب”، لكنّها لا تتشكّل من دون “الحزب” وحلفائه؟

كانت مسيرات “الموتورسيكلات” في شوارع بيروت في الليلتين الماضيتين تذكيراً ضمنيّاً بما يمكن لـ”الحزب” أن يفعله إذا لم يلبِّ الحكم الجديد مطالبه. ولن تكون الممارسة المتّبعة في توزيع الحقائب سوى الإشارة الرمزيّة الأولى. فإذا حصل الثنائي على الحقائب التي يطلبها ليسقط عليها الأسماء من دون نقاش، يكون قد ثبّت الأعراف التي فرضها منذ اتّفاق الدوحة عام 2008.

أخطر المبادئ السياسية التي يمكن أن تُكرّس في هذه المرحلة المفصليّة أن يصبح “الحزب” مرادفاً للشيعة وحقوقهم في الدستور والممارسة، بحيث يصبح ما يعطيه الدستور للشيعة حقّاً مكتسباً لـ”الحزب”، ويصبح الوئام الواجب بين الطوائف مرادفاً لإعطاء “الحزب” حقّ التعطيل في النظام ككلّ، وليس فقط في الحكومة. وبذلك يُكرَّس لـ”الحزب” موقع في النظام فوق السياسة، ولا يكون بإمكان أحد من القوى خوض مواجهة سياسية معه تحت أيّ عنوان.

اليقظة والحذر

ولذلك مسؤوليّة القوى السياسية كلّها أن تثبت الآن تمييزاً لا بدّ منه بين احتضان الشيعة وإبقاء “الحزب” في موقع فوق السياسة. لا بدّ من تثبيت إمكانية الاختلاف مع “الحزب” من دون نشر “الموتورسيكلات” أو القمصان السود أو محاصرة السراي باعتصام مسلّح. يجب أن يعود “الحزب” حزباً طبيعياً كسائر الأحزاب.

لا يمكن أن تستقيم الحياة السياسية بالمقولة السائدة الآن: “إمّا التفاهم مع “الحزب” وإمّا التفاهم معه”، لأنّها المرادف الضمني للمقولة الخفيّة: “إمّا التفاهم مع “الحزب” وإمّا أن يُفجّر البلد”، كما فعل في 2005 وكلّ المحطّات التالية.

الوهم الآخر هو “متلازمة حسّان دياب”، حين توهّم البعض أنّ بإمكان التكنوقراط الهابطين بالباراشوت تقديم نموذج أفضل في الحكم، فكانت الكارثة مع أسوأ إدارة ممكنة لأكبر أزمة مالية ومصرفية ونقدية في تاريخ البلاد. أوقع التكنوقراط البلد في التعثّر، وعزلوه عن أسواق المال الدولية، وبدّدوا أكثر من 20 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان الأجنبية، وفشلوا في تقديم خطّة قابلة للتطبيق لمعالجة الخسائر وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

يحتاج رئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام إلى الكثير من الحذر فيما يختبر حدود قدرته على دخول اللعبة السياسية من أبوابه المجرّبة سابقاً، وهو الذي تفاءل اللبنانيون بوفوده من خارج التقليد.

عبادة اللدن