بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
إنزال النورماندي وقبله معركة ستالينغراد لحظتان فارقتان في التاريخ الحديث، مهّدتا لإنهاء الحرب العالمية وتخليص أوروبا من نير الاحتلال النازي وانتشالها من براثن العنف والخراب والدمار. انتهت الحرب على أن تؤسّس لنظام عالمي جديد يرسّخ الاستقرار ويوفّر للشعوب سلامها الداخلي ويحول دون اعتداء الأقوياء على الضعفاء وينظّم الخلافات بين الدول على أسس العدالة والقانون الدولي والمواثيق والأعراف التي أنشئت من أجل إدارتها منظّمة الأمم المتحدة. لكن هل توقّفت الحروب؟ وهل احترم المؤسّسون ميثاق النظام الذي أسّسوه؟
ثمانون عاماً مرّت، والحروب لم تتوقّف. السلام الدولي عبارة يقتصر وجودها على الكتب. أشباح الحرب الكونية المقبلة لا تزال ماثلة أمام البشريّة. العدالة الإنسانية في خبر كان. والقانون الدولي سلعة تتحكّم بها الدول القويّة والغنيّة من أجل مصالحها. تدخّل الكبار في شؤون الصغار موضة عالمية، والهوّة بين شرق العالم وغربه وبين الشمال والجنوب إلى اتّساع سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً.
الذكرى الثمانون لأكبر إنزال بحريّ في التاريخ لم تكن فرصة لإنهاء مظالم التاريخ ولعنات الجغرافيا، بل كانت مناسبة لتعميق الشرخ بين طرفَي القارّة القديمة. الخصم الأكبر لا يزال روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي الحليف السابق في التحرير ودخول برلين، والذي قدّم في الحرب أرواح 27 مليوناً من أبنائه. “جريمة” موسكو أو “خطؤها” أنّها اعتقدت أنّ بغزوها أوكرانيا تدافع عن أمنها القومي بعدما حُشرت في الزاوية الأطلسيّة الأصعب. انهالت سهام القادة المحتفلين عليها باعتبارها الخطر الأوّل على السلام العالمي وعلى الديمقراطية، ووصفوا رئيسها فلاديمير بوتين بأنّه “طاغية عازم على الهيمنة”. لكنّ أيّاً منهم لم يبحث في الأسباب التي دفعت بالكرملين إلى القيام بالمغامرة العسكرية أو طمأنتها بتسوية معقولة تخفّف من قلقها.
تجاهل الإبادة الجماعيّة في غزّة
لم يتجاهل قادة الغرب الجدد الأبرياء المدنيين من الفرنسيين والبلجيكيين والهولنديين الذي سقطوا بنيران القوات الحليفة الغازية، لكن تجاهلوا عمداً ما يجري من عملية إبادة جماعية تجري أمام أعين العالم في غزة، أين منها عمليات الإبادة النازية؟!
تناسوا أنّ “ضحيّتهم” السابقة فلسطين لا تزال آخر دولة محتلّة في العالم وأنّ القرارات الدولية التي اتّخذتها عواصمهم من أجل إنهاء الاحتلال الثاني عام 1967 بقيت حبراً على ورق لا يصرف في أيّ محفل دولي. وإذا كان بوتين عدوّ الديمقراطية، فما هو الوصف الذي ينطبق على بنيامين نتنياهو؟
في اللحظة نفسها، التي كان قادة الغرب يحتفلون بالنصر على النازية على شواطىء النورماندي، كان الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يساوي إسرائيل بالتنظيمات الإرهابية ويقرّر إدراجها على “قائمة العار” للدول والمنظّمات التي “تلحق الأذى بالأطفال” في مناطق النزاع. وعليه ستظهر تل أبيب في اللائحة السوداء التي ستنشر الأسبوع المقبل ضمن تقرير سيوزّع على أعضاء مجلس الأمن، على أن تجري مناقشته في 26 حزيران الجاري.
إسرائيل التي يصرّ الغرب على وصفها بأنّها “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط، تُصنّف دولياً بأنّها قاتلة أطفال مثلها في ذلك مثل “القاعدة” و”داعش” و”بوكو حرام”. وتضاف رسمياً في سجلّات المنظمة الدولية إلى جانب دول قاتلة مثل أفغانستان والكونغو وميانمار.
قتل طفل فلسطينيّ كلّ 7 دقائق
تفيد تقارير موثّقة أنّ القوات الإسرائيلية تقتل نحو 4 أطفال كلّ ساعة في قطاع غزة، فيما يعيش 43,349 طفلاً من دون الوالدين أو من دون أحدهما، بسبب العدوان المتواصل على قطاع غزة. وبحسب الإحصاءات فإنّ ما يزيد على 14,350 شهيداً في قطاع غزة هم من الأطفال ويشكّلون 44 في المئة من إجمالي عدد الشهداء في قطاع غزة.
تؤكّد مؤسّسات حقوقية أنّ الغارات الإسرائيلية تقتل طفلاً فلسطينياً كلّ 7 دقائق، وهو رقم غير مسبوق في التاريخ المعاصر. يقول الناطق باسم “اليونيسف” جيمس إلدر: “لقد أصبحت غزة مقبرة للأطفال”.
توضح الأمينة التنفيذية للّجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا في الأمم المتحدة “الإسكوا”، رولا دشتي، أنّ إسرائيل قتلت 4,300 طفل فلسطيني في ما يزيد قليلاً على 4 أسابيع. وأضافت أنّ هذا العدد يفوق عدد الأطفال الذين قتلوا في الصراعات المسلّحة في 22 بلداً في العالم منذ عام 2020.
ترفع هذه التقارير من وتيرة الحقد الإسرائيلي على المنظّمات والهيئات الأممية، ولا سيما غوتيريش المهدّد بالويل والثبور من الإسرائيليين وحلفائهم، ومدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان وغيرهما.
تاريخ إسرائيل ملطّخ بدماء الأطفال والنساء بدءاً من مجازر دير ياسين وكفرقاسم ومدرسة بحر البقر، مروراً بقانا، وصولاً إلى المجزرة المفتوحة اليوم في غزة. تقتل الأطفال الفلسطينيين لأنّهم في نظرها “مخرّبون صغار” يرضعون كره الاحتلال مع الحليب. يقول نتنياهو: “من أجل ضمان مستقبل الأطفال اليهود، علينا إنهاء مستقبل الأطفال الفلسطينيين”.
لم يبقِ الاحتلال الإسرائيلي جريمة واحدة من الجرائم التي نصّ عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدّولية، أو اتفاقيات جنيف الأربع، أو ميثاق أو عرف دولي قديم أو حديث، إلا وارتكبها. وهي في المناسبة وكالات ابتكرها الغرب ذاته للإيحاء بسيادة قانون ناظم للعلاقات الدولية، على غرار محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
أُدينت إسرائيل بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، والتهجير القسري، ولم تبقَ منظمة حقوقية أو مؤسّسة إنسانية أو هيئة قانونية إلا وأدلت بدلوها ضدّ إسرائيل، ومع ذلك لا يزال غرب “النورماندي” يدير الأذن الطرشاء، ويساعد في طمس الدلائل والإثباتات القانونية، ويمدّ إسرائيل بكلّ أنواع العتاد والسلاح والدعم السياسي على حساب رفاه شعوبه التي تواجه أزمات حادّة سياسية واقتصادية واجتماعية، لا سيما في أوروبا.
إذا كانت لدى التحالف الإنغلوسكسوني الأميركي البريطاني مصالح عليا تتحكّم بسياساته وهيمنته على العالم وفي صلبها توفير الحماية لإسرائيل كقاعدة متقدّمة له، فإنّ الغريب هو الانصياع الأوروبي لهذا الثنائي الناطق بالإنكليزية الذي لم يتوانَ عن فعل أيّ شيء لإبقاء القارّة القديمة ضعيفة مفكّكة تحت عباءته. فتارة يقسمها بـ”بريكست” وتارة أخرى يجرّها إلى حرب مكلفة مع جارتها روسيا، وطوراً يدفعها إلى مواقف لا تناسب مصالحها وقيمها المشتركة. وآخرها الموقف من الاعتراف بالدولة الفلسطينية الذي قسم أوروبا إلى قسمين، وكذلك الموقف من قرارَي الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، الأمر الذي دفع بمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى القول إنّه بات يتوجّب على الأوروبيين “أن يختاروا بين مساندة المؤسّسات الدولية وحكم القانون، وبين مساندة إسرائيل”.
الأسوأ من ذلك أن تجد أوروبا نفسها في ذكرى تحريرها من الاحتلال والنازية، في موقع الدفاع عن مجرم حرب مدان أمميّاً اسمه نتنياهو، وعن دولة محتلّة صُنّفت دولياً قاتلة للأطفال اسمها إسرائيل؟
أمين قمورية