بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
يحتاج الاستنتاج السريع بأنّ إسرائيل حيّدت منشآت النفط الإيرانية من ضربتها، إلى الكثير من التدقيق. واقع الأمر أنّها أعطت الأميركيين ما يريدونه فيما وجّهت إلى طهران الرسالة التي تفهمها جيّداً.
تنفّست أسواق النفط فجر السبت الصعداء بعدما بدا أنّ إسرائيل التزمت بالخطّ الأحمر الأميركي بعدم استهداف منشآت الطاقة الإيرانية. وكان ذلك كفيلاً بأن تهبط أسعار النفط ستّة في المئة يوم الإثنين، في مستهلّ تداولاتها بعد عطلة نهاية الأسبوع. غير أنّ المصادر الإسرائيلية والإيرانية تقاطعت على تأكيد ضرب أنظمة الدفاع الجوّي المخصّصة لحماية المواقع النفطية الحسّاسة، بما في ذلك منشآت تكرير النفط والبتروكيمياويات وحقول النفط والغاز الكبرى، وأهمّ مرافئ التصدير.
تنقل “نيويورك تايمز” عن مصادر إيرانية وإسرائيلية القول إنّ الضربة الإسرائيلية طالت ثلاث بطاريّات صواريخ S-300 روسية كانت متمركزة في مواقع استراتيجية لحماية العاصمة طهران ومواقع الطاقة الحسّاسة، لتضاف إلى بطارية رابعة كانت إسرائيل قد ضربتها في نيسان الماضي في جوار منشأة نطنز النووية في محافظة أصفهان. وقد أكّد الصحافي في “أكسيوس” باراك رافيد تعطيل البطّاريات الأربعة نقلاً عن مصادر إسرائيلية. ويضاف إلى ذلك ضرب مواقع لمكوّنات مرتبطة ببرنامج الصواريخ البالستية الإيرانية تؤثّر بشكل خاصّ على إمكانية إنتاج الوقود الصلب لإطلاق الصواريخ. وهذا ما أكّدته أيضاً الصور الجوّية التي نشرتها وكالة “رويترز”.
المهمّ في شأن قطاع الطاقة أنّ الضربة طالت الدفاعات الجوّية المحيطة بمواقع أساسية هي: مجمّع الإمام الخميني للبتروكيمياويات في خوزستان، وهو المنشأة الرئيسية لإنتاج الموادّ البتروكيمياوية للسوق المحلّية والتصدير، ومصفاة عبادان، الأكبر في إيران بطاقة تكريريّة تقارب 360 ألف برميل يومياً، ومنشأة لمعالجة الغاز في أحد الحقول بولاية إيلام.
رسالة على قدرة التّعطيل
رسالة إسرائيل واضحة بأنّها قادرة على تعطيل إنتاج النفط والغاز والمنتجات المكرّرة في إيران في حال تصاعد المواجهة، لكنّها في المقابل التزمت برغبة الإدارة الأميركية بعدم إثارة الذعر في أسواق الطاقة العالمية. ولهذا السبب تمّ تنفيذ الضربة مساء الجمعة بالتوقيت الأميركي، بعدما أغلقت البورصات وذهب المتداولون في إجازة نهاية الأسبوع.
ستتيح الضربة لإيران مراجعة حدود قدراتها لتقرّر ما إذا كانت ستستمرّ في مسلسل التصعيد والتصعيد المقابل، أم ستتجرّع “كأس السمّ”، على حدّ التعبير الشهير للخميني حين وافق على إنهاء الحرب مع العراق أواخر الثمانينيات.
أمّا في الشقّ الأميركي، فقد حقّقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إنجازاً نادراً بعد سلسلة طويلة من الفشل، بإظهارها القدرة على وضع سقف للحركة الإسرائيلية، على الأقلّ على مستوى الصورة، وعدم تجاوزها الخطّيْن الأحمرين الأميركيَّين، وهما استهداف المنشآت النووية ومنشآت الطاقة. غير أنّ الإدارة الدبلوماسية الأميركية للضربة الإسرائيلية أظهرت مدى افتقار واشنطن إلى الاستراتيجية في تعاملها مع طهران، وركونها إلى الصفقات الموضعية منذ أن انتهت المفاوضات النووية إلى الفشل صيف 2022. والصفقة الأخيرة في شقّها المتعلّق بأسواق النفط ليست إلّا مثالاً آخر.
كان الاتفاق النووي الذي عقد في عهد باراك أوباما عام 2015 قد رفع صادرات النفط الإيرانية إلى أكثر من مليونَي برميل يومياً. ثمّ حين دخل دونالد ترامب البيت الأبيض ومزّق الاتفاق عام 2018، انخفضت الصادرات الإيرانية إلى نطاق يراوح بين 300 و500 ألف برميل حتى أواخر عام 2019، ريثما بدأت إيران تجد طرقاً للالتفاف على العقوبات بالتعاون مع الصين. ثمّ حين فاز جو بايدن بالرئاسة قبل أربع سنوات، بدأت سياسة غضّ الطرف عن تدفّق النفط الإيراني إلى الأسواق، بالتزامن مع تجدّد جولات المفاوضات في فيينا لإحياء الاتفاق النووي، إلى أن انتهت آخر الجولات إلى الفشل صيف 2022. ومنذ ذلك الحين، افتقرت إدارة بايدن إلى الاستراتيجية وتحوّلت إلى الصفقات الجزئية عبر قنوات التفاوض المفتوحة في سلطنة عُمان، وهو ما أتاح لإيران رفع صادراتها مجدّداً إلى 1.6 مليون برميل يومياً، أي أربعة أضعاف ما كانت تصدّره في عهد ترمب.
تفادي الاضطرابات
في التصعيد الأخير، أرادت الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض تفادي أيّ اضطراب في أسواق الطاقة، مع علمها أنّ غياب النفط الإيراني لا يشكّل بحدّ ذاته أزمة إمدادات
في ظروف السوق الحالية، الممتلئة بفائض كبير من المعروض والطاقة الإنتاجية يقارب ستّة ملايين برميل يومياً.
فوق ذلك، ليست الولايات المتحدة بحاجة إلى أيّ قطرة من النفط أو الغاز الإيرانيَّيْن، بل إنها بعدما تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى أكبر منتج للنفط في العالم، بما يزيد على 13 مليون برميل يومياً، حتى تحوّلت إلى “صافي” مصدّر للنفط والمنتجات البترولية. وباتت كذلك أكبر منتجٍ ومصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، متفوّقة على قطر وأستراليا. والمفارقة أنّ النفط الإيراني يذهب بمعظمه إلى الصين، الغريم التقليدي للأميركيين. وبهذا المعنى يفترض أن تكون الضربة الإسرائيلية لإيران مشكلة للصين أكثر ممّا هي لأميركا.
كلّ ما في الأمر أنّ الإدارة الديمقراطية تريد اجتياز مرحلة الانتخابات وقطع الطريق أمام فوز دونالد ترامب بالرئاسة بأيّ ثمن، لكنّها لا تمتلك رؤية استراتيجية لمسار جديد بين واشنطن وطهران في حال فوز كامالا هاريس، لا في قطاع الطاقة، ولا في أيّ قطاع آخر. أمّا ترامب فتحاشى التعليق على الضربة الإسرائيلية فيما كان منهمكاً باستمالة الجالية العربية والمسلمة في الولاية الأكثر تأرجحاً، ميتشيغن.
والمحصّلة أنّها مرحلة تقطيع وقتٍ تستغلّها إسرائيل لفرض وقائع جديدة ريثما ينجلي الغبار الانتخابي في أميركا.