سليمان الفرزلي
في مثل هذا اليوم، الخامس من شباط (فبراير) 1975، أي منذُ نصف قرن بالتمام والكمال، انتقلت الى رحمته تعالى، «كوكب الشرق» السيدة أم كلثوم، التي جَمَعَ صوتُها العظيم الناطقين بالعربية في جميع أقطارهم ومهاجرهم. وكُنتُ في شبابي أسمعها باستمرار، في قديمها وجديدها، وقد حَضَرتُها مرّتين على مسرحَين لبنانيَين مُختلفَين: في قصر الأونيسكو في بيروت، وفي قلعة بعلبك.
المرّة الأولى، على مسرح الأونيسكو، كانت في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 بمناسبة عيد الاستقلال اللبناني، بعد «ثورة» 1958، وحضرها رئيس الحكومة في ذلك الوقت رشيد كرامي، وغنّت فيها أُغنيتَين هما: «ذكريات»، و «أروح لمين». والمرّة الثانية كانت في أوّلِ إطلالةٍ لها على مسرح قلعة بعلبك، يوم 15 تموز (يوليو) 1966، حيث قدَّمت أُغنياتٍ ثلاث هي: «أمل حياتي»، و «بعيد عنَّك»، و«للصبر حدود».
عند بلوغي نبأ وفاتها، وكُنتُ في رئاسة تحرير جريدة «بيروت»، كتبتُ في رثائها هذا المقال الافتتاحي، في عدد اليوم التالي للجريدة:
أم كلثوم، كوكب الشرق، هو الاسمُ الوحيد في وطننا العربي، الذي يكادُ يرتقي الى تجسيدِ الأُمّة العربية. بل هو ظاهرةٌ سحرية جميلة، ومُعقَّدة، وطموحة، ونبيلة كالأُمّة التي أنجبتها. امتزجَ فيها خلودُ مصر وحضارتها العريقة، بحقيقتها العربية التي لا تُمحى.
لقد بلَغَت بها الأصالة حدًّا جعلها علمًا إنسانيًّا، كالرسالة العربية الخالدة. فلا عجب إنْ حزنَ العرب، وبكوا لفراقها، من ضفاف دجلة والفرات، الى وادي النيل، ومن بادية الشام، الى الساقية الحمراء. فلطالما أشجى صوتُها الملايين في الليالي المُقمرة، كالكروان الآتي من جنّة الخلد، وتهادي القوافل المُتدافعة من عمق الصحراء، حتى لكأنه الحلم العربي الطويل، يُدغدغُ عقولَ العرب وأحاسيسهم، ليربط مجدهم الضائع بماضيهم العريق، وحاضرهم المهدور بمستقبلهم المجهول.
فكم عربيًا خرج عن وقاره وهو يسمع آهاتها، فكأنه يخرج من أسر الواقع المرير إلى فردوسٍ غائبٍ عن الوجدان؟
وكم من العاشقين تغلغلت في قلوبهم، لتبقى، مثل أُمّة العرب، بغيرِ نديم!
هي الأُمّةُ العربية بعينها، بصوتها المجلجل، وبهَيبتِها المتواضعة، وإبائها الشامخ، ونكهتها الفريدة، ومرحها العذب، وامتدادها الرحب، ومُعاناتها القاسية، وأحلامها المستحيلة، ووحدتها الضائعة، وتناقضاتها المترامية، وطبيعتها الخلَّابة، وسلطانها البَهي، ومناراتها الحضارية، ونوازعها الإنسانية، وتراثها المُشِعّ، وعطائها الدافق، وينبوعها الطافح، وكيانها الأصيل، وألف ألف صفة غيرها لا تكون إلَا للأُمم العظيمة وإنسانها الفذّ.
فأيُّ عربي لا يرى نفسه، وحال أُمّته، وهو يُصغي إلى أم كلثوم تصدح: «يا ربُّ هبَّت شعوب من منيتها»؟.
وأيُّ عربي لا يرى المستقبل المجيد زاحفًا كالإعصار وهي تُردِّد: «ثوَّار… ثوَّار»؟
وعندما ستتدفّق الجماهير بالملايين المُتدافعة لتودِّع أم كلثوم، ستخرج كعادتها، لتودِّع حلمًا آخر انطفأ من أحلام مسيرة هذه الأمة المعذَّبة، ربما لأنّها انطبعت على دَفنِ الأحلام العربية الواحد تلوَ الآخر، وربما لتُوقِظ من رقدةِ العدم الحلمَ الكبير!.