بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات.
سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه خمسة جيوش أجنبية محتلّة ودزينات من الميليشيات والعصابات والتنظيمات الآتية من كلّ حدب وصوب، ودولة مريضة يأكلها الاهتراء والانهيار وغابت فلسطين عن بال “عروبة” نظامها في أشدّ اللحظات قتامة.
العراق أغنى دول المشرق وأكثرها قدرات، صار كياناً ممزّقاً ومرتعاً للفساد والفاسدين، وتركه الغزو الأميركي خراباً، وزاد من وتيرة خرابه عبث الجيران والطامعين بنهب إرثه التاريخي الكبير. السودان سرق العسكر ثورة شبابه، وحوّلوه ساحة مبارزة بينهم يختبرون فيها كلّ أنواع الإبادات والاغتصاب والمجاعة.
ليبيا غارقة في حربها الأهليّة التي كلّما لاحت فرصة للتسوية والحلّ، جاء من يعيدها إلى مربّع أصعب.
اليمن أُطلق عليه كذباً لقب “السعيد”، فأهله الطيّبون لم يعرفوا السعادة والاستقرار منذ زمن بعيد.
أمّا لبنان والصومال فصار اسماهما نموذجين عالميَّين للدراسة والبحث، لإظهار قدرة أمراء الطوائف والمذاهب وميليشياتهم المسلّحة على تفكيك بنى الدولة وتدمير هياكلها والمؤسّسات وتحويل الوطن سلعة رخيصة للبيع في بازارات السياسات الإقليمية وسوق الرهانات العالمية.
المشهد القاتم
وسط هذا المشهد القاتم وكنتيجة غير مباشرة له، حلّت النكبة الكبرى في غزة، التي كان أحد أبرز أسبابها تغافل العرب عن فلسطين وقضيّتها، الأمر الذي شجّع إسرائيل على ارتكاب أفظع الجرائم في غزّة المنكوبة والضفّة الجريحة بلا رقيب أو حسيب، حتى كان “الطوفان”، وما أعقبه من عدوان جنونيّ لا يزال في ذروة جموحه. المقاومة الغزّيّة الأسطورية أطالت أمد العدوان، وحرمت نتنياهو من نصر كاسح يعيد الهيبة المكسورة للجيش الإسرائيلي، ويمنحه الأمل بتجنّب قضبان السجن والمحاسبة بعد الخروج من الحكم، فراح يفتّش عن بديل يطيل عمر الحرب للبقاء في السلطة، فلم يجد سوى الانتقال إلى المواجهة الأشمل باختبار “الصبر الاستراتيجي” الإيراني. لعلّه بذلك ينتقل إلى الحرب الكبرى ويزجّ أميركا في نارها.
كان ما كان منذ ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل قادة من الحرس الثوري، وما تلا ذلك من ردّ إيراني محبوك على الغارة الإسرائيلية. أدّى إلى تغيير قواعد الاشتباك بين القوّتين الإقليميّتين بغضّ النظر عن المآلات والنتائج والمسارات المقبلة.
حرب غزة، بعد ما جرى ليل 13ـ 14 نيسان، سيسعى البعض إلى إفراغها من مضمونها السياسي المقاوم للشعب الفلسطيني واعتبارها هجمة إسرائيلية همجيّة على فصيل فلسطيني تحدّى غطرسة تل أبيب، وتحويلها إلى عنصر من عناصر اللعبة الاستراتيجية الكبرى في المنطقة. وستعمد كلّ من طهران وتل أبيب إلى جعلها محطّة فاصلة في لعبة التنافس الإقليمي وليّ الأذرع بينهما وفرصة لتعزيز أوراق القوّة أو الإمساك بأوراق جديدة.
حرجٌ عربيّ إضافي
ومن شأن تحوّل كهذا أن يضيف إلى الوضع الاستراتيجي الحرج للدول العربية حرجاً إضافياً، وأن يعقّد المشهد المأزوم أصلاً لهذه الدول، وخصوصاً الدول الواقعة في المجال الجغرافي وتقاطع النيران بين إيران وإسرائيل. وإذا انزلقت الأمور إلى تصعيد أكبر بينهما، فستتحوّل هذه الدول ساحات خلفيّة لحرب لم تشارك في اتّخاذ قرارها. ولعلّ أكثر الدول تأثّراً هي تلك التي حافظت على علاقات التطبيع مع دولة الاحتلال، وتتجاور في الوقت نفسه مع إيران جغرافيّاً. الأمر الذي قد يكشفها أمام القوّة الأمنيّة الإيرانية.
حتماً لا يعني ذلك أنّ الخطرين الإيراني والإسرائيلي متساويان. وإذا كان الجزء الأكبر من شعوب الشرق العربي معارضاً لأسباب محقّة في شأن السياسات الإيرانية والتوسّع الإيراني في الدول العربية والأدوار “المشبوهة” التي اضطلعت بها طهران في عدد من البلدان على حساب هويّتها الوطنية والعربية وإثارة العصبية المذهبية فيها وتفكيك بناها الدولتيّة وإدخالها في صراعات أهليّة من أجل مصالح عليا إيرانية وتوسيع النفوذ، إلا أنّ إيران تبقى دولة أصيلة في المنطقة، وبلغت حدّ إطلاق صواريخها البعيدة إلى العمق الإسرائيلي في عمل غير مسبوق، بغضّ النظر عن التأويلات والتفسيرات ومصالحها كدولة لها سياساتها الخاصّة واستراتيجيات ومصالحها الوطنية الكبرى. وقد أثبت الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية وصموده حتى الآن أنّها قوّة يمكن التفاهم معها بعد أخذ هواجسها الأمنيّة كدولة محاصرة بالاعتبار.
أمّا إسرائيل فكيان محتلّ جاء من خارج النسيج الاجتماعي والتاريخي للمنطقة، ولديه وظيفة إمبريالية وعسكرية صرفة هي خدمة الاستعمار الغربي الجديد، ولم تظهر في سلوكها السياسي سوى أوجه الإجرام البشع ضدّ الإنسانية وعدم الإقرار بأيّ اتفاقات سلام، أقلّه ما تفعله بفلسطينيّي السلطة على الرغم من اتفاق أوسلو. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ ما جعل الساحات العربية أرض خلاء للعب الإسرائيليين والإيرانيين، هو الفراغ العربي، وتخلّي العرب عن أوراق قوّتهم. علماً أنّه لا يزال في جعبتهم من عناصر القوّة ما يمكّنهم من قلب المعادلات في المنطقة وإعادة تصحيح التوازن وردّ الاعتبار لمكانة العرب على الخريطة كقوّة فاعلة وليس ككمّ بشريّ محتقَر. ركيزة هذه القوّة تتمثّل في مصر والسعودية.
مصر مصعد العرب
مصر التي كانت اللاعب الأكثر أهميّة في الإقليم، هي المصعد، فإن صعدت صعد العرب معها، وإن هبطت هبطوا، وإن توقّفت توقّفوا. على الرغم من تطويقها بحزام النار من غزّة وليبيا والسودان والبحر الأحمر والتلاعب بماء شربها في أعالي النيل. لا تزال تملك القوّة العسكرية والجيش الوطني كركيزة تدخّل في الخارج واستقرار في الداخل. صحيح أنّها تعاني من ضغوط اقتصادية ومكشوفة الظهر. لكنّ ارتباطها بالسعودية، الدولة الأغنى في الإقليم والأكثر قدرة اقتصاديّاً وطاقويّاً وصاحبة المكانة الأبرز، من شأنه أن يبني سدّاً في مواجهة الانهيارات العربية. وكلا البلدين، نظراً إلى أوضاعه، لا يستطيع تحمّل وحده عبء قيادة المنطقة. فلا السعودية، بحكم انشغالها برؤيتها الاقتصادية البعيدة المدى وتبعات حرب اليمن، قادرة على ذلك، ولا مصر بحكم أزماتها المستحكمة تستطيع ذلك الآن. ولا بدّ أن يدرك البلدان أهمّية أن يكونا معاً، وخطورة أن يبتعد أحدهما عن الآخر.
يعيش النظام الإقليمي اليوم لحظة مفصليّة تاريخية، وإسرائيل وإيران ومعهما تركيا بنسبة أقلّ يستعرضون على الصفيح الساخن للمنطقة أقصى ما لديهم من أوراق قوّة حقيقية وبفعّالية كبيرة. تمهيداً للحظة قطف ثمار التسويات الكبرى الجارية التي يجري التفاوض عليها بالنار وفي الظلّ لرسم حدود النفوذ والتوسّع. وهذا لن يكون إلّا على حساب العرب المكوّن الرئيسي لجغرافيا المنطقة. لذا على المجموعة العربية التي حافظت على الحدّ الأدنى من تماسكها الداخلي وكيانيّتها، ولا سيما نواتها الصلبة (مصر والسعودية)، مطالبة بالبحث عن مقاربات جديدة وسياسات تأخذ التحوّلات الكبرى الجارية بالاعتبار، ولا تتّكىء على “الإرشاد” و”الوعد” الأميركي الذي لا ينفكّ “يمجّد” الاحتلال الإسرائيلي ويتجنّب “المواجهة” المباشرة مع إيران، بل تعتمد على القوّة الذاتية لصنع معادلة الردع العربية، شرط أن تكون قضيّتها وبوصلتها فلسطين للحدّ من استغلالها في بازارات المتاجرة الإقليمية.
أمين قمورية