إيمان شمص
اساس ميديا
كيف سقط نظام الأسد، ولم يرَ الجواسيس ذلك قادماً على الرغم من الاتّجاهات البطيئة الحركة الواضحة: جيش سوري منهك، مجموعة من الداعمين الخارجيين، روسيا وإيران و”الحزب” منهكة ومستنزفة بسبب حروبها الخاصة، ومعارضة سورية متزايدة القدرة؟
سؤال بات مطروحاً في أروقة الإدارة الأميركية وأجهزة الدولة العميقة.
“كان السقوط السريع للأسد غير قابل للتنبّؤ،” يبرّر المحلّل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية ديفيد ماكلوسكي الذي عمل في محطّات ميدانية تابعة للوكالة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط طوال فترة ما عُرِفَ بأنّه “الربيع العربي”.
ملكلوسكي أجرى دورات تدريبية في “مركز مكافحة الإرهاب” ركّزت على حركات الجهاد في سوريا والعراق. وفي رأيه كان الانهيار السريع لقوّات الأسد، مع تردّد أصداء انهيار الجيش العراقي في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، أو انهيار الأفغان أمام طالبان في عام 2021، بمنزلة صدمة، ولسبب وجيه. فسقوط الأسد بهذه السرعة لم يكن قابلاً للتنبّؤ. فهو نوع من الديناميّات المعقّدة والمتشابكة التي تختبر حدود الإدراك البشري، علاوة على القدرات التحليلية للجواسيس. حتّى المتمرّدون أنفسهم فوجئوا بمدى سرعة انهيار الأسد. فقد كان الجميع يتوقّع قتالاً لم يحدث أبداً.
ألغاز وليست أسراراً
لكن اليوم مع تمركز الأسد في موسكو، ماذا يخطّط الجواسيس الآن؟
في وضع متغيّر مثل الوضع الذي تشهده سوريا اليوم، يعتقد ماكلوسكي أنّ “الأسئلة التي يرغب صنّاع السياسات في أن تجيب عليها أجهزة الاستخبارات الخاصّة بهم هي أيضاً الأسئلة الأكثر صعوبة للإجابة عليها. إذ على الرغم من أنّ الجواسيس من الناحية النظرية لديهم القدرة على الوصول إلى معلومات أكثر من محلّلي مراكز الأبحاث أو الصحافيين على سبيل المثال، بحكم منصّات استخبارات الإشارات والصور الفضائية والأصول البشرية، فهم غالباً ما يكونون غير مجهّزين بشكل أفضل للإجابة على هذه الأسئلة لأنّها ألغاز أكثر من كونها أسراراً. يمكنك سرقة سرّ. أمّا الألغاز فلا يمكن فعل ذلك معها. يجب حلّ الألغاز بعناية على مرّ الزمن.
هذه الألغاز حاليّاً ربّما تشمل في رأي ماكلوسكي محاولات للإجابة على الأسئلة الآتية:
– ما هي السيناريوهات المحتملة لكيفية تطوّر الوضع؟
– ماذا يريد حقّاً زعيم هيئة تحرير الشام المعروف باسم محمد الجولاني، الذي بدأ الآن استخدام اسمه الحقيقي أحمد الشرع؟
– ما هي الخطّة لعناصر النظام السابق وخليط الأقلّيات الدينية والعرقية في سوريا؟
– ما هي آفاق هيئة تحرير الشام لتوسيع نطاق نموذج الحكم الخاصّ بها على المستوى الوطني، والتعاون أو التنافس مع الفصائل الأخرى؟
– ما هو وضع وأمن المخزونات العسكرية الاستراتيجية السورية، وخاصة تلك المرتبطة ببرنامج الأسلحة الكيميائية؟
– وما هي خطط ونوايا القادة الأجانب في أنقرة والقدس وطهران وموسكو والرياض؟
إنشاء شبكة استخبارات بشريّة
يعتقد المحلّل الاستخباري أنّ “وكالة المخابرات المركزية وغيرها من أجهزة التجسّس الغربية تبحث عن أسرار تساعد في حلّ هذه الألغاز. ويعني هذا من الناحية العمليّاتية أنّه يتمّ الآن التدقيق بكلّ حالة استخبارات بشرية عالمية متعلّقة بسوريا تمّ تكليفها لمعرفة كيف يمكن لمصدر المعلومات أو الجاسوس أن ينتج شيئاً مفيداً عن سوريا. خاصّة عن هيئة تحرير الشام أو الفصائل المسلّحة الأخرى. ومن المؤكّد أنّ ضبّاط العمليّات سيبحثون أيضاً في وجود مصادر في صفوفهم لم تبلّغ كثيراً عن سوريا لكنّها قد تكون قادرة على ذلك الآن. على سبيل المثال، هل في البلدان المجاورة مصادر مرتبطة بسوريا قد تكون قادرة على تقديم شيء مفيد ليتمّ إرسالها إلى البلاد؟
استناداً إلى خبرته في مختلف أنحاء الشرق الأوسط طوال الربيع العربي، يشير ماكلوسكي إلى أنّ “الجهود جارية في أجهزة الأمن، المحظوظة بما يكفي، والتي تمكّنت من تشغيل مصادر داخل نظام الأسد وأجهزة الأمن، لإخراج هؤلاء الأشخاص من أجل حمايتهم. ويتمّ الطلب من ضبّاط الاستخبارات المدرّبين على إيجاد الأشخاص الذين لديهم إمكانية الوصول إلى معلومات نريدها. أي العثور على مرشّحين داخل أو بالقرب من أقوى الفصائل السورية حتى يمكن التخطيط للتواصل معهم وربّما تطويرهم بصفة متطوّعين جدد. فهل لدينا وسيلة للوصول إلى أيّ قريب لمسؤول حكومي مؤقّت؟ هل نعرف الشخص الذي يعرف مستشاراً رئيسياً لقائد هيئة تحرير الشام العسكري في دمشق؟
من لانغلي إلى أنقرة إلى تل أبيب
من الجانب التحليليّ، ماكلوسكي متأكّد تماماً من أنّ المحلّلين المرهقين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في مقر الوكالة في لانغلي، منهمكون في التدقيق في الكمّ الهائل من المعلومات التي تتدفّق الآن، ليس فقط من مصادر سرّية، بل وعلى وسائل الإعلام الاجتماعية ومن جحافل الصحافيين الذين يهرعون الآن إلى سوريا. بعض هذه المعلومات سيكون مفيداً، ومعظمها سيكون غير ذي قيمة. ويحاول المحلّلون فرز هذه المعلومات. بينما تسعى وكالات التجسّس الغربية أيضاً إلى التواصل مع نظرائها من الوكلاء. وتقوم وكالات التجسّس المرتبطة بالإسرائيليين والأردنيين والأتراك، على وجه الخصوص، بطرق الأبواب على أمل معرفة ما يعرفونه، أو تبادل المعلومات المفيدة حول الوضع المتطوّر.
ويقول إنّ ذروة كلّ ذلك، وعلى الأقلّ في الولايات المتحدة، هي التقرير اليومي للرئيس. أي الصحيفة السرّية التي يتلقّاها الرئيس كلّ صباح وتتضمّن أهمّ قصص الاستخبارات في ذلك اليوم. مشيراً إلى واقع أنّ “سوريا التي لم تظهر في هذه النشرة إلّا نادراً (إن ظهرت على الإطلاق) في الأسابيع والأشهر التي سبقت بدء الهجوم الذي شنّه المتمرّدون في الشهر الماضي، ستكون محور النشرة الآن، وربّما ستظلّ كذلك في المستقبل المنظور”.
تجنيد عناصر بشريّة جديدة
في رأي ماكلوسكي واستشرافاً للمستقبل “ستسعى أجهزة التجسّس الغربية إلى تجنيد عناصر بشرية جديدة في هياكل السلطة السورية التي تمّ تشكيلها حديثاً. وسترحّب وكالات التجسّس بإعادة فتح السفارات، التي توفّر وسائل لإخفاء ضبّاط الاستخبارات في ثوب دبلوماسيين، والعمل كمنصّات لجمع المعلومات التقنية. وإذا استمرّت حرّية الحركة الكبرى في سوريا، فقد تدفع أيضاً إلى أفكار إبداعية لاستغلال نقاط الضعف في البنية التحتية للاتّصالات، مع التركيز على تطوير منصّات جديدة للاستخبارات الإشارية. لكنّ كلّ ذلك سيستغرق بعض الوقت حتى يؤتي ثماره”.
مهما حدث في سوريا، يرجّح ماكلوسكي “أن تقف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الهامش على الأرجح، فتجمع ما تستطيع جمعه، وتساعد في حملة مكافحة الإرهاب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، على افتراض استمرار السلطات القائمة القيام بذلك”. مشيراً إلى ما كتبه الرئيس المنتخب دونالد ترامب في نهاية الأسبوع الماضي، على منصة “Truth Social – تروث سوشيال”: “لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون لها أيّ علاقة بالأمر. هذه ليست معركتنا. دعها تستمرّ. لا تتدخّل”.
ويؤكّد ختاماً أنّ الأتراك والإسرائيليين، لا وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني، من بين جميع أجهزة التجسّس، هم الأكثر استعداداً للقيام بأدوار أكبر في سوريا في الأشهر المقبلة. وستشكّل أنشطتهم السرّية، وأحياناً غير السرّية، إلى حدّ كبير سياسة سوريا ما بعد الأسد، سواء للأفضل أو للأسوأ. ويعتقد أخيراً أنّه “على الرغم من المخاطر الكثيرة، لدى السوريين الآن فرصة حقيقية لبناء شيء أفضل ممّا كان من قبل”. ومهما حدث، فالجواسيس سيراقبون