أردوغان وأوجلان في وجه المشروع الإسرائيلي؟

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

الساعة الخامسة من 27 شباط الفائت، بتوقيت عبدالله أوجلان في إسطنبول. كان موعد قراءة الرسالة التي سيوجّهها لمناصريه في صفوف “حزب العمّال الكردستاني” الذي أسّسه قبل أكثر من 4 عقود، ليعلن فيها التخلّي عن خيار البندقية في مواجهة الدولة التركية والدعوة إلى حلّ التنظيم ودخول مرحلة جديدة من “النضال عبر الحوار السلمي الديمقراطي” لتحقيق المطالب .

لا نعرف ما الذي كان يدور في ذهن أوجلان وهو يختار هذا التوقيت، ليقرأ قادة حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” (ديم)، المحسوب على الصوت الكردي في تركيا، نصّ رسالته بالكردية والتركية. وقد لا تكون هناك أيّ قيمة أو رمزيّة لاختيار هذا الوقت سوى كونه ساعة مفصليّة، خاصة في السياقات الاجتماعية للعديد من الثقافات في حياتها اليومية. لكنّنا نعرف أنّ هذا التوقيت قد يصبح لحظة تحوُّل تاريخي، ورمزاً لمسار سياسي ودستوري وأمنيّ جديد في التعامل مع الملفّ الكردي بشقّيه التركي والإقليمي، وربّما بداية جديدة مغايرة رصدها ملايين الأتراك والأكراد، في مسار العلاقة التي ستتشكّل بينهما بعد تخلّي حزب “أبو” عن الاحتكام إلى السلاح وسيلةً لانتزاع المطالب.

المتغيّرات الإقليميّة لعبت دورها

هناك حتماً ما هو أبعد من مبادرة دولت بهشلي الزعيم اليمينيّ القوميّ المتشدّد إلى التوجّه في مطلع تشرين الأوّل المنصرم نحو مقاعد كتلة نوّاب “ديم” لمصافحتهم والانفتاح على نقاش جديد في الملفّ الكردي، ووصول الأمور إلى استجابة أوجلان. المتغيّرات والمتطلّبات الداخلية والإقليمية، وحجم التهديدات والمخاطر المحدقة، والانسدادات على جبهة وولادة الكثير من الفرص الاستراتيجية على جبهة أخرى، هي التي ساهمت في الوصول إلى ما نحن عليه اليوم.

لسخرية القدر أن يكون بهشلي الذي رمى الحبل في الهواء عام 2007 مطالباً بشنق أوجلان، وعرقل فرصة عام 2013 لصناعة حلّ للموضوع الكردي، هو من يقود المشهد اليوم نحو الحوار والسلم. هل كان يعرف قبل 4 أشهر أنّ سوريا مقبلة على تحوّلات سياسية داخلية ستقود إلى إزاحة بشار الأسد، وأنّ البعض سيحرّك الملفّ الكردي ضدّ تركيا والمنطقة من جديد، ولذلك قرّر استباق الأمور بمعرفة وموافقة حليفه “حزب العدالة والتنمية”، وأخذ زمام المبادرة؟

بعد ساعات على رسالة أوجلان كان دونالد ترامب يوبّخ فولوديمير زيلينسكي أمام العدسات. مشهد مرعب من هذا النوع قد يكون من بين أسباب ودوافع هذا التقارب وتبنّي الحوار التركي الكردي. لا أحد يثق بحليف يقلب الطاولة عندما لا يأخذ ما يريد، فلماذا لا تبحث أنقرة وأكراد المنطقة عن حلول ذاتية  ووطنية لمشاكلهم؟

يتقدّم المسار الكردي الجديد بشقّه التركي بشكل سريع وسط الكثير من الحيرة والاندهاش. صلاح الدين دميرطاش رئيس “حزب الشعوب الديمقراطية” المسجون بتهمة التعاون مع الإرهاب، يقول إنّه سيفعل ما بوسعه لإنجاح تحرّك الثلاثي إردوغان وبهشلي وأوجلان “أطال الله بأعمارهم على خطّ السلام”. بعد ذلك بساعات يتّصل بهشلي به مهنّئاً وشاكراً.

فرص لن يتمّ التّفريط بها

صحيح أنّ شكل خارطة الطريق وتفاصيلها والخطّة العمليّة التي سيتمّ اعتمادها ليست واضحةً بعد، لكنّ مبادرة بهشلي ثمّ رسالة أوجلان هما محاولة جديدة لإخراج الملفّ الكردي من ثلّاجة التريّث والانتظار الطويل ومحاولة تفعيل “تفاهمات دولمة بهشة” في عام 2015 التي وصلت إلى طريق مسدود، وهديّة كبيرة لإردوغان كي يجيّر كلّ ذلك إلى فرص لن يتمّ التفريط بها.

الأجواء السياسية في الداخل التركي مغايرة. لا تباعد بين إردوغان وبهشلي حول الموضوع الكردي. قوى المعارضة جاهزة للتعاون والتنسيق. ولا وصاية عسكرية متشدّدة تفرض نفسها على الملفّ. أوجلان قال ما عنده. ودور “اللاعب الثالث” المؤثّر في الموضوع تراجَع بشكل كبير، فلمَ لن يتحرّك إردوغان؟

تقول الحصيلة الأولى إنّ المتغيّرات الداخلية التركية والتحوّلات الإقليمية اضطلعت بدور أساسي في دفع أوجلان لتوجيه مثل هذه الرسالة التي هي نتاج حراك داخلي وخارجي مكثّف بشكل علنيّ وسرّيّ، ساهم فيه أكثر من لاعب على خطّ أنقرة – إربيل – بغداد – دمشق والقامشلي، من دون تجاهل حصّة العديد من العواصم الإقليمية في دعم هذه الفرصة وتسهيل وصولها إلى ما هي عليه اليوم .

ما الذي سيجري الآن؟

مِن بين ما ينتظره أوجلان اليوم هو: إعادة تعريف مصطلح المواطنة، وموادّ دستورية جديدة حول المكوّن الكردي في تركيا، عفو عامّ أو جزئيّ عن السجناء والموجودين في الجبال وربّما تسهيل عودة الأتراك منهم إلى منازلهم، وتفعيل مسار ديمقراطي جديد يأخذ في الاعتبار الواقع التركي والإقليمي.

لكنّ أنقرة تقول إنّه من دون إشراك ملفّ شرق الفرات في النقاش، وحسم مصير كوادر حزب العمّال الموجودين هناك، وحسم المشروع السياسي لـ”قسد”، وتسليم سلاحها الأميركي، وقبول تخلّيها عن ورقة “داعش” لسوريا الجديدة، من الصعب إنجاز “الحلّ الكردي”، ولا قيمة لأيّ جهود تُبذل باتّجاه حلّ تعقيدات الملفّ فوق أراضيها. كيف ستنأى “قسد” بنفسها عمّا يجري على خطّ أنقرة – أوجلان وعندها حزب الاتّحاد الديمقراطي، الذراع السوريّة لحزب العمّال الكردستاني، وامتداده العسكري في “وحدات حماية الشعب”، فيما واشنطن تقول إنّها تأمل أن تساهم رسالة أوجلان في تخفيف هواجس أنقرة في شرق الفرات؟

الخشية من عرقلة المتضرّرين

ما تتحسّب له أنقرة أيضاً هو دخول المتضرّرين على الخطّ لإفشال المحاولة. تحذيرات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإيران تؤكّد ما تقوله التقارير الأمنيّة والاستخبارية التركية عن تزايد الدعم الإيراني لـ”قسد” والتنسيق الثلاثي الحاصل بينهما مع السليمانية. يقول فيدان إنّ “أيّ محاولة لإثارة الفوضى في بلد آخر قد تؤدّي إلى ردّات فعل مماثلة من طرف بلد آخر”.

لن تفاوض أنقرة حزب العمّال وكوادره، بل ستفاوض نفسها أوّلاً، ثمّ حزب “ديم” الذي دخل على خطّ إيمرالي بشكل مكثّف ثانياً، مع دخول إربيل على الخطّ عند اللزوم ثالثاً.

يتحدّث أوجلان في رسالته عن خيبة أمل وانسداد في الحلم والتعامل بواقعية جديدة مع التحوّلات المحلّية والإقليمية. لكنّ ما بعد الرسالة سيعني انتصارات سياسية لحزب العدالة ولرئيسه إردوغان لأنّ ارتداداتها سياسياً وشعبياً وانتخابياً ستكون كبيرة جدّاً. وقد تكون الترجمة مقدّمة لإطاحة مشروع إسرائيل الإقليمي في شرق أوسط جديد تحركت فيه الورقة الكردية ضدّ دول المنطقة .

د.سمير صالحة