بقلم د. ابراهيم العرب
في خطوة متوقعة، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن انسحابه من سباق الانتخابات الرئاسية لعام 2024، مما أثار تساؤلات حول تأثير هذا القرار على السياسة الأميركية والدولية. تأتي هذه التطورات في وقت حساس، حيث يتوجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وَسَط تصاعد الضغوط للتوصل إلى صفقة حول تبادل الأسرى وهدنة في غزة.
إن انسحاب بايدن من سباق الانتخابات الرئاسية جاء بعد ضغوط متزايدة من داخل حزبه الديمقراطي وتصاعد الشكوك حول أهليته الصحية والسياسية للاستمرار في قيادة الولايات المتحدة. كما أنّ هذا القرار جاء بعد مناظرة مشحونة مع الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث بدا بايدن متعبًا وغير قادر على تقديم إجابات مقنعة، مما دفع العديد من قيادات الحزب الديمقراطي، بمن فيهم الرئيس الأسبق باراك أوباما ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، للضغط عليه للتنحي.
إنّ هذا القرار يؤثر بشكل كبير على المشهد الانتخابي الأميركي، فمن المتوقع أن يختار الحزب الديمقراطي نائب الرئيس كامالا هاريس كمرشحة للانتخابات القادمة، مما قد يعيد ترتيب الأولويات والسياسات الداخلية والخارجية للحزب الديمقراطي. كما أنّ انسحاب بايدن يفتح الباب أمام ترامب للعمل أكثر على حملته الانتخابية، خاصة مع تزايد شعبيته بعد نجاته من محاولة اغتيال حديثة.
وعليه، فإنّ زيارة نتنياهو إلى واشنطن تأتي في وقت حساس للغاية، حيث يعتزم إلقاء خطاب أمام الكونغرس، وهي خطوة تحمل في طياتها الكثير من الرسائل السياسية، لاسيما أنّ هذه الزيارة تأتي وَسَط ضغوط داخلية وخارجية على نتنياهو للتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى، في ظل التطورات الأخيرة في غزة والضغوط الأميركية والدولية؛ لكن نتنياهو ما يزال متعنتًا في الإسراع بإبرام الصفقة، مما يثير استياء العديد من المسؤولين الأميركيين الذين كانوا يأملون في تحقيق تقدم في هذا الملف قبل نهاية ولاية بايدن. ومع ذلك، فإن العلاقة بين نتنياهو والديمقراطيين شابها الكثير من التوترات، سواء بسبب سياسة الإصلاح القضائي التي تبناها نتنياهو، أو محاولة القضاء على فرص السلام مع السلطة الفلسطينية بضم الضفة الغربية لإسرائيل، أو بسبب مواصلته الإبادة الجماعية في غزة وغياب أي خطط إسرائيلية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب.
من جهتنا، فإننا نرى بأنه من المتوقع أن يسعى بايدن، خلال لقائه مع نتنياهو، إلى الدفع نحو التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى، باعتبار أن هذا الملف يحظى باهتمام كبير من قبل العائلات الإسرائيلية والأميركية على حد سواء، خصوصًا بعدما نظّم «منتدى عائلات الرهائن» مسيرات في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، لحث نتنياهو على التوصل إلى صفقة؛ وبعدما طالبت عائلات الرهائن الأميركيين المحتجزين في غزة بمقابلة نتنياهو خلال زيارته لواشنطن، للضغط عليه للمضي قدمًا في هذا الملف.
في المقابل، فإن سياسة نتنياهو الداخلية والخارجية، ستنعكس بعد انسحاب بايدن على محادثات الهدنة في غزة بشكل كبير، فنتنياهو يسعى إلى تحسين علاقاته مع ترامب، ويأمل بالتعاون مستقبلًا مع إدارة جمهورية محتملة، تكون أكثر توافقًا مع سياساته؛ ولذلك فإنه سيعرقل قدر الإمكان صفقة التبادل وسيسوّف ويراوغ حتى تصدر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني، لأن الأخير يعلم بأن فوز ترامب، سيساهم بالقضاء على حلم الدولة الفلسطينية، لاسيما أنه كان عراب الاعتراف الأميركي بالقدس الغربية والشرقية عاصمة موحدة للدولة اليهودية، ولأنه من دعاة استكمال عمليات التطبيع من خلال إبرام تفاهمات واتفاقات جانبية تجعل القضية الفلسطينية شأنًا ثانويًا، لا بل خاصًا بالفلسطينيين أنفسهم.
ولذلك، ها هو النتنياهو يروّج اليوم بأن لديه معلومات استخبارية عالية الدِّقَّة، تؤكّد بأنه تمكن من قتل القائد العسكري لحماس محمد الضيف، ليوحي للكونغرس الأميركي الذي سيخطب فيه نهار الأربعاء، أنه قضى على أهم قائد ميداني في حماس، وأن باستطاعته في حال منحه مزيدًا من الوقت والدعم الأميركي أن يفكّك الجناح العسكري للحركة، وأن يحقق نصرًا تاريخيًا لدولة إسرائيل، يأتي على حساب آلاف المجازر والمحارق المروّعة بحق الفلسطينيين المدنيين الأبرياء، وعلى حساب المجاعة الخطيرة الغير مسبوقة في التاريخ الحديث، التي تهدد حياة مليوني إنسان في غزة، جلّهم من الأطفال والنساء والمشايخ الذين لا حول لهم ولا قوّة.
كما يخطط نتنياهو لعقد اجتماع مع نائبة الرئيس كامالا هاريس، في خطوة تعكس رغبته في استشراف المستقبل السياسي لواشنطن وضمان استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل، حال فوز الديمقراطيين.
وبالتالي، فإن اللقاءات المخطّطة والخطابات المعدّة لنتنياهو تأتي في وقت حسّاس، يسعى فيه الأخير للحصول على دعم عسكري ودبلوماسي من الولايات المتحدة، خاصة في حال اضطر إلى تصعيد المواجهة مع حزب الله والحوثيين؛ وما يؤكد صحة ذلك، أن «مجلس العلاقات الخارجية» نشر مؤخرًا تقريرًا يشير فيه إلى أن نتنياهو سيحاول تحويل الأنظار بعيدًا عن الصراع في غزة نحو التهديد الذي تشكله إيران ووكلائها؛ إلا أن ما يلجم النتنياهو هي المظاهرات التي تدعو لها ليل نهار المنظمات الأميركية، التي تطالبه بوقف الحرب على غزة ووقف الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، والتي تشمل تحالف «التحرك الآن لوقف الحرب وإنهاء العنصرية» ومنظمة «كود بينك» وجماعات يهودية مثل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، والتي يتوقع أن يشارك فيها الآلاف في مسيرات مرتقبة في العاصمة الأميركية، مما سيضع مزيدًا من الضغط على النتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض وأثناء إلقائه خطابه في الكونغرس الأميركي.
من ناحية أخرى، فإن بعض المحتجين بدأوا يطالبون باعتقال نتنياهو، في إشارة إلى طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، وهو ما سيظهر نتنياهو أمام مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين كمجرم حرب وليس كرئيس دولة، وهو ما يقلقه ويؤثر سلبًا على الاستجابة الأميركية لمطالبه.
ولكن رغم كل التواطؤ العالمي، والإصرار على دعم الحزبين الحاكمين الديمقراطي والجمهوري للنتنياهو، سيُهزم الأخير وسيتم إبعاده كأي مجرم حرب عن حياة الغزاويين وعن تفاصيلها؛ لاسيما بعدما ظهر وجهه القبيح، وبعدما أُدخل جيشه النازي على لائحة العار السوداء لقتلة الأطفال في الأمم المتحدة، وبعدما بات هو ووزير دفاعه ملاحقين دوليًا بطلب من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وبعدما علت الأصوات التي تنادي بإدراج وزير أمنه القومي ووزير ماليته على لائحة العقوبات الدولية.
وتأسيسًا على ما تقدم، تكون زيارة نتنياهو لواشنطن قد أتت في وقت حرج، حيث تزداد الضغوط الدولية والمحلية عليه للتوصل إلى اتفاقات حاسمة مع حركة حماس، في ظل انسحاب بايدن من سباق الرئاسة وتداعياته على السياسة الأميركية؛ كما ستظل تأثيرات هذه التطورات محسوسة على مستويات متعددة، مما سيعيد تشكيل العلاقات الإسرائيلية- الأميركية والسياسات الإقليمية والدولية؛ في حين يبقى مستقبل الصفقة غامضًا، ولكن نتائج الانتخابات الأميركية بعد أربعة أشهر من الآن تشير إلى حقبة من التحولات الكبيرة في السياسة الأميركية والإسرائيلية على حد سواء.
وفي الختام، سواء قُتل محمد الضيف كما يزعم الإسرائيليون، أم لم يقتل، فالمعركة مستمرة حتى يسترجع الغزاويون حياتهم من جديد ويعيشونها ويستمتعون بكل أوقاتها؛ مؤمنين بقوله تعالى في محكم تنزيله: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين»، فلا يعتقدَنّ النتنياهو أن قتل الضيف، أو أي قائد فلسطيني آخر كالسنوار لا سمح الله، سيؤثر شيئًا في المعركة مع الصهاينة، فها هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم قد قُتل، ولم يزد أتباعه وأنصاره إلا ثباتًا وإصرارًا على مواصلة القتال والتحدي والمواجهة، حتى توسعت دولتهم وقويت شوكتهم وباتت لهم هيبة لا مثيل لها في تاريخ البشرية الحديث.
ولذلك، فإننا نخرج بقناعة أننا وجدنا على هذه الأراضي الطاهرة المقدسة، لندافع عنها ونعيش بعزة وكرامة، لا بخنوع وذل وعبودية، فلا حياة مع كل عقرب لا يؤمن بالسلام ولا حتى بالتعايش مع الآخر، لا بل حتى لا يرضى بتسويات من أنصاف وأرباع حلول؛ كذلك، فلا حياة مع كل من يعتنق الفكر الصهيوني المؤمن بعقيدة المضي قُدمًا بقضم أراضي الغير؛ ومع كل من يرفض حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والاعتراف بحق اللاجئين بالعودة لوطنهم؛ وإنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد، ومهما كانت الأثمان باهظة، فالأجر على الله، ونحن مستبشرون ببيعنا الذي بايعنا به ربنا جلّ وعلا، وبوعده القرآني لنا بالانتصار على الأعداء، وهذا هو فوزنا العظيم.
د. ابراهيم العرب