بقلم جون بولتون «اندبندنت عربية»
اختتمت حالياً أول دفعة من الهجمات الإيرانية العلنية على الأراضي الإسرائيلية ومعها الرد الإسرائيلي الذي شكل أول هجوم علني في الداخل الإيراني. ولكن، على رغم كل ذلك لا يجب أن يخيل لأحد بأن ملالي طهران قد تخلوا عن استراتيجيتهم الكبرى الرامية إلى فرض الهيمنة في كل أنحاء الشرق الأوسط وفي صفوف المسلمين، ولا أن حربهم السرية الطويلة الأمد ضد إسرائيل ستهدأ وتتراجع. بيد أنه، في الوقت الحالي، ينبغي أن ينصب التركيز على جهود إسرائيل الوشيكة للقضاء على “حماس” عسكرياً وسياسياً، والتصدي للمقبل من خطة معركة “حلقة النار” الإيرانية.
ما زال من غير الواضح حتى الساعة ما إذا اعتزمت إيران أن تبادر “حماس” إلى شن استراتيجية “حلقة النار” الكاملة خلال هجومها الهمجي في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وربما سيبقى ذلك مجهولاً لبعض الوقت أيضاً. أياً تكن أهداف إيران، أدى الرد الإسرائيلي القاسي إلى شل قدرات “حماس” القتالية التقليدية. فضلاً عن ذلك، بدأ سكان غزة بالتحول ضد “حماس” وهو أمر بغاية الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل والعالم العربي على حد سواء. لا شك أن طهران أساءت الحكم على الاستقرار السياسي الداخلي لإسرائيل والنفور [الرفض] العالمي من أحداث السابع من أكتوبر 2023، لكن من المرجح أن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية خامنئي كان يعتقد أنه يمكن ترك “حماس” لمصيرها في أي حال. مع ذلك، يجب أن يشعر بالقلق إزاء الدمار الذي أصاب “حماس”، على رغم أن إيران نفسها ووكلاءها الإرهابيين الآخرين (الحوثيين، و”حزب الله”، والميليشيات الشيعية العراقية والسورية) لم يعانوا إلا قليلاً.
في الوقت الراهن تبدو إيران غير مستعدة للمخاطرة بخسارة مزيد من هذه الاستثمارات. ومن المرجح أن الملالي يدركون فعلاً مدى الضعف السياسي الداخلي لإدارة بايدن، كما يفعل معظم الأميركيين حتماً. ومع الشك الذي يهيمن على إعادة انتخاب بايدن لولاية ثانية، قد يكون من المبرر والمنطقي أن يشعر آيات الله الإيرانيون بالقلق من احتمال أن تؤدي أي هجمات أخرى ضد إسرائيل، بصورة مباشرة أو من خلال الجماعات الإرهابية المتحالفة معها، إلى رد فعل أميركي قوي، في وقت يحاول بايدن إظهار الدعم لإسرائيل. فالنتيجة غير المتوقعة للحملة الانتخابية الأميركية، وما قد تحمله ولاية ثانية لترمب، تشير ربما إلى توقف موقت قصير الأمد من الجانب الإيراني. كما أن انتظار سقوط حكومة بنيامين نتنياهو قد يكون بمثابة هدية لإيران. فما من زعيم إسرائيلي آخر يدرك التهديد الإيراني بمثل هذا الوضوح، أو يمتلك تصميم نتنياهو على عدم وقوع إسرائيل فريسة لما سماه سلفه أرييل شارون “المحرقة النووية”.
ولكن، أياً يكن ما تفضله إيران، فليس بوسعها أن تتجاهل بأن أي نصر إسرائيلي حاسم ضد “حماس” من شأنه أن يضعف موقف طهران الإقليمي على نحو لا يمكن إصلاحه. فإسرائيل ليست حتماً لاعباً متلقياً أو يكتفي بالرد في هذا الإطار، حتى لو اتبع البيت الأبيض في عهد بايدن هذه المقاربة. في الواقع، قد تستهدف إسرائيل بعد ذلك المخزون الصاروخي الهائل الذي يملكه “حزب الله”، والتهديد شبه الوجودي الذي يشكله. إن كانت إسرائيل تعتقد أن إيران تخشى بما فيه الكفاية من التدخل الأميركي المباشر، فيمكن للقدس أن تتخذ إجراءات حاسمة ضد ترسانة “حزب الله” من دون الخوف من ضربات إيرانية مضادة كبيرة.
والأهم من ذلك أن حالة عدم اليقين التي تحيط بالانتخابات الأميركية المقرر إجراؤها في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل لا توحي لطهران بوجهة واضحة [لسير الأمور]. وعلى رغم أوامر ترمب باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، كاد إيمانويل ماكرون أن يقنع ترمب في قمة مجموعة السبع في بياريتز بلقاء وزير الخارجية الإيراني آنذاك جواد ظريف. من ثم، حتى في ظل الضعف والتردد الواضحين اللذين يهيمنان على إدارة بايدن، يمكن لملالي إيران أن يقرروا انتظار قدوم ترمب مجدداً وفهمه المحدود لمصالح الأمن القومي الأساسية لأميركا. ومن شأن رفض القيام بمبادرات عسكرية كبرى جديدة قبل الخامس من نوفمبر أن يجنب تعريض الحوثيين أو “حزب الله” أو الميليشيات الشيعية وحتى إيران نفسها، لهجمات عقابية تشنها القدس أو واشنطن.
وفي هذا السياق أيضاً، تأخذ إيران في الاعتبار اصطفافها المتزايد وتقاربها مع المحور الصيني – الروسي السريع النمو، وهو نسخة معاصرة من التحالف الصيني – السوفياتي خلال الحرب الباردة، إذ تشكل بكين الشريك الأكبر وموسكو الجهة التابعة لها. فإيران تبيع روسيا مسيرات لاستخدامها ضد أوكرانيا. وزادت الصين مشترياتها من النفط والغاز من روسيا. وتسهل إيران التهرب الروسي من العقوبات المالية الدولية، وهي تدرس ما إذا كانت ستتخذ خطوة حاسمة ضد تايوان، ربما قبل الانتخابات الأميركية، في وقت لا تزال وجهة نظر بكين (وموسكو) في شأن الانتظار حتى حسم الانتخابات الأميركية، أو اتخاذ خطوات كبيرة قبل ذلك الوقت، غير واضحة، مع وجود نقاط إيجابية وسلبية في كلتا الحالتين. فمجرد كون ذلك موضوعاً لنقاش محتدم خلال حملة انتخابية رئاسية أميركية طاحنة على المستوى الحزبي أمر بالغ الخطورة وغير مؤكد، وهو عامل تعقيد كبير بالنسبة إلى روسيا والصين وإيران.
في غضون ذلك أصبح التنسيق العلني بين إيران والشركاء الآخرين في محور بكين – موسكو، مثل كوريا الشمالية، أكثر وضوحاً. وسبق لإيران وكوريا الشمالية أن تعاونتا بصورة وثيقة منذ فترة طويلة في برامج الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية، ولكن في الخفاء، لأسباب لا تخفى. لذا فإن التخلي عن أي ادعاءات في شأن العلاقات بينهما يشكل علامة على زيادة الثقة لدى هاتين الدولتين المارقتين اللتين تعملان على نشر الأسلحة النووية. ومن المؤسف أن خصوم أميركا يدركون كلهم أن رغبة ترمب في عقد “صفقات كبيرة” مع أعداء بلاده بوسعها أن تطغى بسهولة على أي حسابات عقلانية للمصالح الوطنية الأميركية.
سيكون السيناريو الأكثر ترجيحاً للأشهر الستة المقبلة كالتالي: الهجمات الإسرائيلية ستترك “حماس” مجرد شبكة إرهابية متهالكة وستزيد القدس من حملتها ضد الإرهابيين المشتبه فيهم في الضفة الغربية وغزة، ومن شأن التوترات على طول الحدود اللبنانية بين إسرائيل و”حزب الله” أن تتزايد. مع اقتراب موعد الخامس من نوفمبر، وربما اتضاح النتيجة والصورة الشاملة، سيتعين على إيران ووكلائها أن يتخذوا قرارهم الخاص في شأن ما إذا كان عليهم القيام بعمل عسكري كبير، أو الانتظار حتى يتم تنصيب رئيس جديد. لا يحسبن أحد بأن الأشهر الستة المقبلة ستكون هادئة.
جون بولتون