بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
بعد ساعات من الكشف عن عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أظهرت إيران و”محور المقاومة” أعراض ذهول وارتباك من حدث فوجئا به كما فوجئ به العالم. ظهر أيضاً أنّ قيادات حركة “حماس” في الخارج علموا بالأمر كما علم العامّة جميعاً من خلال وسائل الإعلام. ارتجل الحزب في لبنان، في اليوم التالي لـ “الطوفان”، على عجل، تحريك جبهة الجنوب، تحت مسمّيات تراوحت بين الدعم والإسناد والمشاغلة. غير أنّ إيران عبّرت عن مزاج آخر.
حرصت طهران على المبالغة في التعبير عن عدم علاقتها بالعملية التي نفّذتها “كتائب عزّ الدين القسّام” في غلاف غزّة. وإن كان من المسلّم أن تطلق منابر إيران طقوس الدعم لفلسطين وغزّة، لكنّها آثرت، في مستويات متعدّدة وصلت إلى موقع المرشد علي خامنئي، إظهار شبه تبرّؤ من أمر “لا ناقة لها فيه ولا جمل”. بدا حينها أنّ طهران تهيّبت جديّاً ردّ الفعل الدولي، الغربي خصوصاً، المُدين للعملية والداعم بإفراط لإسرائيل وحقّها بالردّ والانتقام.
عندما أنّب خامنئي هنيّة
في أوائل شهر تشرين الثاني 2023، أي بعد 3 أسابيع من “الطوفان”، بدا أنّ طهران “استدعت” رئيس المكتب السياسي الراحل لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة. وما صدر عن مصادر إيرانية حينها أفاد، وفق ما نقلت وكالة “رويترز”، أنّ مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي الذي استقبل هنيّة، أنّب ضيفه على قيام حركته بالعملية بقرار ذاتي من دون إبلاغ إيران بالأمر أو التنسيق معها. كشفت الوكالة الأميركية أنّ خامنئي قال: “لم تخبرونا ولن نقاتل بالنيابة عنكم”.
قدّم خامنئي حينها رواية رفيعة المستوى لموقف إيران الرسمي من حدث “الطوفان” ليؤكّد صحّة ما ذهب إليه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن. تبرّع المسؤول الأميركي، في اليوم التالي لعملية “حماس” في غزّة، بالتأكيد أن “لا أدلّة أو معطيات” على تورّط إيران بذلك الحدث. بدا أنّ قناة خلفيّة أميركية إيرانية قد فُعِّلت بهدف ضبط “الجبهات” وعدم تمدّد نار الحدث إلى خارج ميادين حدوثه. أصدرت طهران حينذاك رشقات من التصريحات الداعية إلى التهدئة وعدم توسيع رقعة الصراع. حتى إنّ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان كان تحدّث في زيارته الأولى لبيروت بعد أيام على انفجار الوضع في غزّة عن “حرص إيران على أمن لبنان واستقراره”.
على وقع “التسخين المنضبط” لجبهة جنوب لبنان على يد الحزب، وعلى قاعدة النأي بالنفس علناً عن عملية “حماس” في غزّة، استنتجت إيران لاحقاً أنّها تخاطر في فقدان “ورقة فلسطين”. لم تكن طهران جزءاً من حجّ الوفود الدبلوماسية الدولية إلى المنطقة بحثاً عن المخارج وتحرّياً للتسويات. باتت القاهرة والدوحة راعيتين لجولات المفاوضات. واستضافت الرياض، في تشرين الثاني 2023، قمّة عربية إسلامية استثنائية، حضرها الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، تضامناً مع غزّة واستنكاراً للعدوان الإسرائيلي. وبدا أنّ كلّ عواصم المنطقة، من مسقط إلى أنقرة مروراً بعمّان، معنيّة بمآلات الحرب وترتيبات “اليوم التالي”، فيما طهران تتأمّل المشهد من بعيد.
عودة إيران من البحر الأحمر
قد يكون “إشعال” البحر الأحمر على يد جماعة الحوثي في اليمن وراء عودة إيران بقوّة إلى مشهد غزّة. كشف الأمر عن فشل القناة الخلفيّة في مسقط بين واشنطن وطهران في تلبية طموحات إيران إلى إنتاج تفاهمات ومكاسب. غير أنّ إسرائيل هي التي قدّمت لإيران المناسبة الكبرى لتصبح من الواجهات الأساسية لمسارات الحروب الكبرى في المنطقة ومفاتيح السلم فيها. جرى أنّ إسرائيل قصفت في الأوّل من نيسان الماضي مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق.
استدعى الحدث، في 13 من الشهر نفسه، ردّاً إيرانياً مباشراً، غير مسبوق منذ قيام الجمهورية الإسلامية، ضدّ أهداف داخل إسرائيل نفسها. وجرى أنّ إسرائيل اغتالت هنيّة في 31 تموز الماضي في العاصمة الإيرانية، وهو ما استدرج إيران من جديد إلى ردّ موعود تعيش المنطقة هذه الأيام على احتمالاته.
استدعت حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، من خلال “انتهاكها للسيادة الإيرانية”، وفق رواية طهران، في عمليّتي القنصلية في دمشق واغتيال هنيّة في طهران، إيران لتكون أساساً على طاولة المداولات الدولية لمنع الحرب الشاملة في الشرق الأوسط. وما دامت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ترى أنّ مفتاح منع الانفجار الكبير، على الرغم من نشر واشنطن “أرمادا” رادعة في مياه المنطقة، هو التوصّل إلى صفقة توقف إطلاق النار في غزّة وتنهي الحرب هناك، فإنّ إيران كانت حاضرة بشكل ما هذه المرّة على طاولة المفاوضات الجارية حالياً.
كان لافتاً أنّ حركة “حماس”، التي قيل إنّ جناحها الإيراني هو الذي غلب في تعيين يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي خلفاً لهنيّة، هي التي تعلن أنّها لن تكون حاضرة على طاولة المفاوضات. قوبل موقف الحركة بدعوة واشنطن إلى عدم أخذ ما يصدر عن “حماس” من مواقف على محمل الجدّ، بمعنى أنّ الشكل لا يربك حقيقة المضمون الذي تنتجه المداولات الخلفية بين واشنطن وطهران. تسرّب أنّ موقف “حماس” يمرّر لإيران ما يتيح لها أن تكون عاملاً ضاغطاً عليها يبرّر استجابتها لضغوط الوسطاء. لكنّ أمر الوظيفة الإيرانية في غرف التفاوض بات أكثر جلاء في الإعلان عن اتّصال أجراه، مساء الخميس الماضي، رئيس مجلس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني، مع وزير الخارجية الإيراني بالوكالة، علي باقري كني، لبحث “جهود الوساطة لإنهاء الحرب في غزة”.
باتت إيران جزءاً علنيّاً من مآلات الحرب في غزّة. وحين صارت طهران على الطاولة صدر عن الحزب في لبنان كلام، نقلته “بالصدفة” “واشنطن بوست”، يفيد بأنّه لن يردّ على اغتيال القيادي فؤاد شكر حتى لا يتحمّل (أي الحزب) مسؤولية تعطيل تلك الطاولة. وللصدف أيضاً أنّ الفصائل الموالية لإيران في العراق صمتت على أنباء تقول إنّ الولايات المتحدة لم تحدد موعداً كان منتظراً لسحب قوّاتها من العراق.
كانت تركيا ودول الاتحاد الأوروبي أدلت بدلوها في صدد الصفقة والتهدئة، فيما توجّه وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا ليرفدا حراك موفدي واشنطن الذين “انتشروا” بشكل غير مسبوق في المنطقة بحثاً عن مخرج يدفع إليه بايدن بقوّة. وإن جرى تداول سيناريوهات واقعية وخيالية عن “اليوم التالي” للحرب في غزّة، فإنّ إيران التي اعتُرف بها، على مضض، شريكاً في ما قد ينتج من مفاوضات هذه الأيام، تمنّي النفس، من دون شكّ، بموقع يبقيها في مشهد ما بعد وقف إطلاق النار ممسكة دائماً بورقة فلسطين.
محمد قواص