بقلم د. باسم عساف
تتعاقب العهود وحكوماتها، من بعد دستور الطائف وبدء الجمهورية الثانية، التي قامت على أنقاض الأحداث الأليمة، حيث مرَّت بهذا الوطن، كرمى لمصالح دوليٌَة وإقليميٌَة، وأيضاً محليَّة مؤيِّدَةً ومنفذةً وغارقةً بالإنحياز والتبعيٌَة، حتى بات لبنانُ مرتعاً لكُلٌِ القِوى التي تنهَش بكِيانِه ودولتِه ومؤسٌَساتِه.
والطامٌَة الكُبرى التي غفِل عنها إتفاق الطٌَائِف، تتكوٌَن من عدم تغيير أحزاب وميليشيات وقادة الحرب، الذين أمعَنوا بالبلد الفسَاد والقَتل والإجرَام، وتهيِئَة غيرِهم، ليقودُوا الأمن والسلام والإنماء والإزدهار.
كما حدث أن جاء بهذه الدعوة، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي لم يركَب مَوجتَهم ولم يُنفِّذ غايتَهم، رغم حرصِه على مُراعاة الجميع، لإنجاح برنامَجِه الإصلاحي، وقد ذهب ضحيَّة إمعانِهم وإستمرارِهِم بلٌغَة الحرب، ومَبدأ المُحاصًصَة وتوزيع المغانم الشعبوية، التي توسَّعت لتشمَل الطائفية والمذهبيَّة، بحيث باتت من العُرف الدستوري، الذي قيَّدُوه بالميثاقِيَّة الطائفيٌَة والمذهبيٌَة، حتى باتت اللٌُعبة الدِيموقراطِيَّة تَوافُقيَّة، وبات النظام اللبناني بأكمله، ملكيٌَةً فردِيٌَة تتوزَّع على خَمسِ أو سِتٌِ فئآتٍ حِزبيَّةٍ أو مذهبيًّةٍ، تتَحكٌَم بالقرار اللبناني، الذي يَنعكِس على الكِيان وسُلطاتِه ومؤسٌَساتٍه وأجهِزته.
أين مُقرَّرات الطَّائف من كل هذه الإعتِبَاطات والنٌَزوَات، التي أضيفَت بعُرفٍ جَدِيدٍ، وتطبيقٍ أشبهُ بالفَرضِ والقوٌَة، المُتَجسَّدة بالمُستَجِدات الأمنيَّة والعَسكرِيَّة، التي تندَرِج بمُسبِّباتِ الأحدَاث اللُّبنانِيَّة، والتي إفتكرنَاهَا قد ولَّت إلى غيرِ رَجعة،وأنَّ الطائف، قد تم فيه القضاء عليها، بإنهاء نتائج عين الرمانه، وإذ بنا نفاجأ، بأن القلوب لا زالت مَليَانه، ولكن لا نَستغرِب ذلك، مع وجود قادة الحرب، بأنَّهُم هُم أنفُسهُم قادة السِلم، وأنَهم يريدُون الإنماءَ والإزدهار، ولكن على طريقتهم وأسلوبهم، الذي أرادوه بالحرب، للتَّقسيم على أحجَامهِم الشٌَعبويَّة، وفي السٌِلم، على أحجامِهِم بالكُتل النِيابيٌَة، التي فصَّلوها على قياسَاتِهم المَذهبيَّة ليُخرِجُوا لبنانّ، (من تحتِ الدٌِلف، إلى تحتِ المِزراب).
إستَطاعًت فِئآت التَّقاسُم والمُحاصَصَة، على السٌَيطرَة بالواقِع الجديد، الذي فُرِض على الشٌَعب اللبناني، من بعد إسنشهاد الرئيس الحريري، بأن توَزَّعُوا إلى شِقَّينِ مُتنافِسَين بالشكل والمضمون، خاصَّةً مع إنسِحاب الجيشِ السُّوري من مُهِمَّاتِه كَقُوَة ردعٍ عَربيٌَةٍ رداً على التنازُع بالأحداثِ اللُّبنانيَّة، وبَدأت معًها عملية شدٌِ الحِبال في تقاسُم الدٌَولة وسلطاتِها ورئآسَاتِها الثلاث، بحيث باتَ لبنان الطائف، بثلاثَة رؤوسٍ في الحُكم، وتعطٌَلت الدِيموقرَاطيَّة البَرلمَانيَّة، لتتَحكٌَمَ بها الكُتَل البَرلُمانيَّة، من خلال قانونٍ جديدٍ للإنتخَاباتِ النِّيابيٌَة.
هذا العرف الجديد، الذي تَكرٌَس لأجلِ توزِيع المَراكِز والمناصِب، داخِلَ المجلِس النٌِيابيّ والحُكومِيّ، وِفقَ أحجَامِ الكُتَل والفئآت المذهبية التي تقُودُها، ليكون مَضمون المُحَاصَصَات، مُتوافِقاً مع شكل الفِئآت، ومراكز القوى الموزَّعة فِيما بينَها.
من هنا دخلت السٌُوسَة إلى عُمق الكِيان الٌُلبناني، وبدَأت مَعها رِحلَة الفَسَاد العَلني والكَوابيس، بعد أن كان سِرِّيا ومن خَلفِ السِّتار والكَوالِيس.
بَدأت الألعَاب تظهر، وشدٌُ الحِبال يَبرُز مع الإستِحقَاقَات الإنتِخابِيَّة أكانت نِيابيٌَة أم رئآسيِّة أو مع التَشكِيلات الحُكومِيَّة ومُحاصَصاتِها، وقد تبقى غارقَةً لِسَنواتٍ من الفَراغِ على حِساب الشٌَعب اللُّبنَاني لِحِساب فردٍ من هُنا أو هُناك، ضمن الفئآت المُمعِنة في الفسَاد، دون أن يَرُفَّ لَهم جِِفن من الخَوف، على تَقوضِ وتقسِيم الدٌَولة اللٌُبنانيَّة، وإنحِدَارها نَحو الهَاوِية، وكلُّ همَّهِم تقويَة مراكِز القِوى، والإعتِدَاد بالأرقام والأحجَام، والهَدَف منها: هو السُلطة والمَال، وتوزيعُ المَغانِم على االأتبَاع والأنصَار والأزلَام، دون التفكِير بأيٌِ غايةٍ لِخدمَة الشٌَعب اللٌُبناني، الذي عانَى من حروبهم الأمنية والميليشياوية، وأيضاً من حروبهم الإفسَاديَّة والمُحاصَصِيَّة…
حيث أن جَميعُهم قد غرِقوا في هذا الجُبِّ والرٌِمال المُتحرِّكَة، من غنائِم المَناصِب والأموَال السَّائبة بين أيدي الفاسِدِين، حيث تنَعَّموا بها وحَرمُوا حقُوق الشَّعب الٌُلبنَاني مِنها، وباتَ مَنكوباً بهم وبسَببهِم.
فسَادُهُم قد طال كل الصعد، التي تتَكوَّنُ منها الدَّولَة ومؤسَّساتُها، وأفضَلُ دليلٍ عَليها جميعاً، هو ما أمعَنَت أيدِيهِم الفاسِدَة في أموال المُودِعِين بالبُنوك والمَصارِف الُّلبنانية وِفق سَرِقاتٍ مُمنهَجة ومُركَّبة مع مَصرِف لبنان وحاكِمه الأرعَن، حيث وصَلوا إلى الإفلاسِ الكبير، وأيضاً بدَليلِ صَفَقات الكهرُباء الفاضِحَة، عبر الحُكومات المُتعاقِبة منذ/ ٢٠٠٦، ومن خِلال وزراء الطَّاقة، الذين تولُّوها حتى الآن، وجميعُهم ينتَمون إلى فئآت الفساد، وهم لا يستَحيُون من فِعلتِهم، أمام الرأي العام العالمي ودُوَلِه، التي عَرضَت الكثيرَ من مَشاريعِ التأهِيل شِبهِ المَجانِيِّ لِمَعامِل وشبَكَة الكَهرباء، دُون الرٌَد الإيجَابيِّ من وُزراء الطَّاقَة ومَن خَلفَهم مِن فِئآت الفَسَاد.
جَرى ذلك أيضاً مع الدول العربية الصديقة، التي تمُدُّ يدَها دوماً للمُساعدة، دونما أيِّ مُبادَرةٍ للتَعاطي بإيجابيَّة، والقرارُ دوماً بشِراء الفُيُول أو الغَاز، أو إستِئجار بَواخِر توليد الكهرُباء، وتكاليف الواحِدة منها تساوي: أضعَافاً مُضاعَفةً من إنشاءِ عِدَّة معاملٍ لتولِيد الطَّاقة الكهربائيَّة، التي تُعطي ٢٤/٢٤، من التَغذيَّة اليَوميَّة.
ومثالُها في مصر: حيثُ لم تتجَاوز تكاليف إنشاء ومدِّ شبكَةٍ كهربائيَّةٍ لأكثر من /١٢٠ مِليون مصري وبحجم/ ٢٠ ضِعف من مسَاحة لبنان بتكاليف: /٦ مليار دولار.
وكذلك العراق بعد الحرب لم تكلٌِف إنشاء ومدٌُ شبكة الكهرباء، أكثر من مليار دولار دونما البَحث بأمر الفسَاد عندهم أمام الفَساد عندنا، بحيث صُرف حتى الآن، ومنذ تولي الطغمة الفاسدة، ووزارة الطاقة، أكثر من /٤٢ مليار دولار، والتغذية باتت صفراً، ولا ساعةً واحدةً، حتى وصَل الأمرُ لخُضوع الوزراء للتحقيق، ولكن (يللي إستحوا ماتوا)، من بعدِ الوَعدِ الشَهِير لوزير الطاقة الأكبر، الذي طالبَ بمبلغِ ملياري دولار بوقتها، لتكون التغذية: ٢٤/٢٤ مع أوائل سنة/ ٢٠١٥ ، ولا زال الشعب اللبناني (عالوَعد يا كمون)، ولازالت الصفقات هي السارية ولا زالت السرقات هي الجارية.
حتى المساعدات التي تأتي من العراق والجزائر ومصر وغيرها، تتعرض للمافيات، التي تتبع هذه الفِئة الفاسِدَة لتُستَبدَل ببواخِر أخرَى، أو موادٍ فاسِدَةٍ للطٌَاقَة، وهي موجُودةٌ في لبنان، أو تُستَقدَم خِلسَةً دون أي مواصَفاتٍ.
المُهِمُّ في الأمر، (أنَّ قافِلة الفَسَاد تسِير والكِلابُ تنبح)، وهم بإطمِئنانٍ وأمانٍ، مالَم يأخُذ القانُون مَجراهُ، والقَضاءُ يجَسِّد حقيقَة القَصَاص، وأقَلُّه تعلِيق المَشانِق، لأنَّ أفعَالهُم تندَرِج في خانَة الخِيانَة العظمى، بحقِّ الوطن والشٌَعب اللبناني، الذي تحَمَّل الكثيرَ من تبِعاتِهِم، وغَرِق بنكَباتِه وأزمَاتِه الحَياتِيَّة والمَعِيشيَّة بسَببهِم، ووجَب إيقافُ هذه الُّلعبة القَذِرة، ووضعِ حَدٍّ للتَّفنُنِ في الَّلعِب، بكَهرَبةِ الشَّعِب.
د. باسم عساف