عوكر بين نار وانفجار: عودة الأسد ومصادفتان عن “عونَين”!

بقلم جان عزيز

«اساس ميديا»

سوريّ. إسلامويّ. معارض لدمشق. يطلق النار على سفارة واشنطن في بيروت.

هذا هو كلّ العنوان.

بل هذا هو المدخل المحتمل للحلّ المفقود والمنشود.

لا كما حصل في عوكر قبل 9 أشهر. بل كما حصل في المكان نفسه قبل 40عاماً.

قبل ساعات قليلة من انكشاف هويّة مطلق النار على السفارة الأميركية في عوكر، شمال بيروت، كان أحد المواكبين للاتّصالات الدولية حول لبنان، ينعى كلّ المساعي والمحاولات والمبادرات.

لا شيء تحقّق في زيارة لودريان. ولا شيء متوقّعاً من قمّة النورماندي. حتى إنّ الموفد الفرنسي ونظيره الأميركي لا يتردّدان في التعبير عن سأمهما من أزمة لبنان. حتّى الغثيان.

مصارحة بين الفرنسيّ والأميركيّ

تبادلَ الاثنان معاناتهما وخيبات تجاربهما في بيروت. حتى تساءلا معاً: أيّ جنون أن يراهن أكثر من طرف لبناني على خيارات انقلابية جذرية من نوع سقوط النظام وقيام نظام آخر في لبنان وحتى في محيطه والمنطقة، بحيث يتوهّم “الحزب” أنّه اقترب من “جمهوريّته الإسلامية” العدديّة، ولو بواجهة ذمّية، أو يتوهّم خصومه في المقلب الآخر أنّهم على وشك أن يشهدوا قيامَ معادلةٍ يتخلّصون فيها من ضغط “الحزب” على هذه الدولة، وإلّا تُتاح لهم فرصة تغيير نظامها وشكلها، وصولاً حتى إلى تأسيس دولتهم؟!

تصارحَ الفرنسي والأميركي وتكاشفا، كما ينقل أحد الذين تواصلوا معهما، حتى بلغا قناعة مفادها أنْ لا حلّ للبنان في ظلّ هذه الطبقة السياسية برمّتها، وأنّ المطلوب طبقة جديدة شابّة نظيفة متحرّرة من أعباء الخارج وأطماع الداخل، طبقة تأتي من انتخابات نيابية نزيهة بقانون انتخابي عادل فعلاً.

لكن كيف الوصول إلى ذلك؟ّ!

حتى إنّ الرجلين لم يستبعدا فكرة وجود من “يساعد” لبنان من خارجه على حلّ أزماته الداخلية هذه.

ليس المطروح ولا المطلوبُ وصايةً أو هيمنة. قطعاً لا. لكنْ مجرّد “مساعدة”. شيء من “تأثير إيجابي” أو “ضغط بنّاء”.

وهل من مرشّحين لمثل هذا الدور؟

طبعاً لا أحد من القوى المتنطّحة حالياً لممارسة نفوذ في بيروت.

إيران؟

مستحيل. فهي طرف. لا بل جزءٌ أساسيّ من المشكلة والأزمة.

أميركا؟

مستحيلٌ أكثر. فهي معتبرة طرفاً أيضاً. فضلاً عن أنّها لا تريد ذلك أصلاً وكلّياً.

السعوديّة؟ فرنسا؟

الأولى قادرة لكنّها غير راغبة إطلاقاً. الثانية على عكسها تماماً.

العودة إلى سوريا؟

في سياق الحديث والتعداد وسرد الأمثلة وعرض السوابق والشواهد، قيلَ إنّ أكثر من جهة غربية توقّفت عند جهة واسم:

سوريا! نعم سوريا.

وكرّت الأسباب الموجبة والدوافع المقنعة:

1- أوّلاً، سوريا اليوم في العمق، مع تغيير كلّ الطبقة السياسية القائمة في لبنان. ولا لزوم للدخول في التفاصيل والمحذورات والمحظورات. يكفي أن نستعرض علاقتها مع كلّ “زعيم” من زعماء القبائل اللبنانية في الوطن والمهجر، المتناحرين والناحرين للبلد. ما من واحد منهم على علاقة جيّدة في العمق والحقيقة، مع نظام دمشق. ولذلك افتراض قيام تأثير لها في بيروت قد يترافق مع افتراض رحيل هؤلاء عن السلطة جميعاً.

لكن ماذا عن “الحزب” وتحالفه الاستراتيجي هو وراعيه الإيراني مع سوريا؟

هذه قصّة أخرى تُحلُّ بموجب “دفتر شروط التسوية”. وهي أصلاً شكليّة ظاهرية. يُدرك أهل العمق والبواطن مدى ازدواجيّتها وتقيّتها لدى الطرفين. تكفي زيارة واحدة لسوريا، بين منطقة السيّدة زينب من جهة، إلى منتجعات الساحل من جهة مناقضة، لإدراك استحالة التعايش بين النموذجين!

2- ثانياً، سوريا اليوم في العمق، مع توجّه الحلّ الشامل لقضية فلسطين على قاعدة “الدولتين”، وفق “مبادرة بيروت” في عام 2002 ووفق قرارات الشرعية الأمميّة. وبالتالي فهي مستعدّة لضمانة تسوية كهذه على “الحدودين”. والأهمّ أنّها قادرة على فرضها بما تملكه من إمكانات جغرا – سياسية على الأقلّ، من بوّابات تُفتح وتُردُّ وتُغلقُ وتوصدُ، من العراق إلى جنوب لبنان.

3- سوريا اليوم مختلفة جدّياً وجذرياً عن سوريا قبل عقدٍ ونيّف. العرب عادوا إليها. (ولا بدّ من كلام مفصّل عمّا يحصل على هذا الصعيد). وأوروبا بدأت مشوار العودة إليها. آخر الإعلانات الصارخة زيارة مدير المخابرات الإيطالية لدمشق. وهناك من سبق ومن سيلي. فضلاً عن انفتاح تركي إردوغانيّ مماثل.

شفاء أسماء… بين وقائع الأرض ودعوات السماء

حتى أميركيّاً الكلّ يعرف أنّ اتصالاتٍ مباشرة حصلت، وأنّ طروحات متقدّمة جداً قد تمّ تبادلها، وإن توقّفت عند عقدة المواطن الأميركي أوستن تايس، الذي يعتقله النظام السوري. المهم أنّ مبدأ التواصل والتفاوض قد أُقرّ. الباقي تفاصيل متعلّقة بحسابات سياسية “بلديّة” لدى حكّام البلدين، لجهة التوقيت و”مومنتوم” الخطوة ومكاسبها القصوى وسلبيّاتها الدنيا وسوى ذلك من جزئيّات.

المهمّ أنّ سوريا تغيّرت، ودائماً بحسب العصف الفكري الأوروبي الأميركي المشار إليه. وسيتأكّد أكثر هذا التغيير، لا بل حتى الانقلاب، حين يتمّ الإعلان عن شفاء “السيّدة الأولى” من دائها الأخير. بحيث تتكامل الخطوات بين وقائع الأرض ودعوات السماء، للسيّدة أسماء!

… في هذا التوقيت بالذات، جاء قيس فراج. سوري إسلاموي معارض مناهض مناوئ معادٍ، لنظام الأسد، وأطلق النار على السفارة الأميركية في عوكر.

قبل أربعين عاماً ناقصة بضعة أشهر، استهدف انفجارٌ انتحاري مبنى السفارة نفسها في عوكر. قيل إنّ جهة إسلامية متطرّفة كانت خلفه.

يومها كان قد مضى عامان ونيّف على انسحاب جيش حافظ الأسد جزئياً من لبنان، تحت وطأة الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982.

ويومها كانت واشنطن قد تلقّت ضربات “جهادية” متكرّرة، من تفجير سفارتها في عين المريسة في نيسان 1983، إلى تفجير المارينز في تشرين الأوّل من العام نفسه، وصولاً إلى تفجير عوكر.

في تلك الفترة كانت “خلوات بكفيا” التفاوضية منطلقة بين بيروت ودمشق. بعدها تطوّرت الأمور على مسارين اثنين:

مبادرات متنقّلة ومتقلّبة لحلّ لبناني شامل، من “الخلوات” إلى ورقة أبريل غلاسبي إلى بدايات مسوّدات اتفاق الطائف.

مقابل تدهورات عنيفة على الأرض وفي كلّ المناطق، تدحرجت صراعاتٍ داخل كلّ فريق ومنطقة، وحروباً ذاتية تدميرية. حتى تبلورت تدريجياً عودةٌ سوريّةٌ إلى بيروت في شباط 1987، ثمّ سيطرة كاملة على كلّ لبنان في تشرين 1990.

6 سنوات بين الحدثين؟! صحيح. لكنْ من قال إنّ أحداً مستعجلٌ في لبنان الآن، أو في محيطه أو حتى الخارج؟!

ثمّ من قال إنّ الأمور غير قابلة للتسريع والتسارع، بفضل رعونة مسؤولي بيروت وجشع بعضهم ودجل بعض آخر؟!

وصولاً حتى ارتضائهم العودة إلى “الوصاية”، جهلاً منهم وعجزاً عن فهم ميثاق لبنان. هذا الميثاق الذي جوهرُه إدارةُ المترفّعين لشأنه العامّ، لا حكم التافهين الدجّالين لمصالحهم الفردية الصغيرة.

تبقى ملاحظتان ضروريّتان على هامش الكلام، وإنْ لا علاقة لهما مباشرةً بما سبق.

– أوّلاً، بُعيد ساعات على تفجير السفارة في عوكر في أيلول 1984، وصل إليها مطمئنّاً ريتشارد مورفي الشهير. وكان يومها مساعداً لوزير خارجية بلاده، جورج شولتز، الذي وصفنا ذات يوم بـ”بؤرةٍ مصابةٍ بجائحة بَرَصٍ دائم”.

فوافاه إلى عوكر قائد الجيش المعيّن حديثاً يومها في منصبه، قبل خمسة أشهر فقط، العماد ميشال عون.

روى مورفي بعد 30 سنة، لكاتب هذه السطور، أنّه يتذكّر جيّداً ذلك اللقاء، وأنّه أحبّ أن يمتحن “الجنرال المارونيّ”. فانتظر لحظةً من سياق دردشتهما، ليسأله: “وماذا عن استحقاق رئاسة الجمهورية بعد 4 سنوات؟”. وتابع مورفي أنّ عون قال له: “كلّ ستّ سنوات يكون لبنان على موعد مع رئيسٍ جديد للجمهورية. لكنّه قد ينتظر قرناً كاملاً ليكون على موعدٍ مع محرّر. وأنا مهتمٌّ بالموعد الثاني لا بالأوّل”!

طبعاً روى مورفي تلك الواقعة هازئاً. لكنّ عون نفسه، نفى حصولها كليّاً.

– ملاحظة ثانية، غداً يسافر قائد الجيش الحالي، العماد جوزف عون إلى واشنطن، بعد ساعاتٍ قليلة على حادثة عوكر، كما على افتتاحه طرقاً عدّة على الحدود الشرقية للبنان. فيما الجيش على خطّ الحدود في الجنوب!

جان عزيز

التعليقات (0)
إضافة تعليق