بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
ماذا يجري في بلاد
البابا فرنسيس؟
كان الدستور الأرجنتيني ينصّ على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً كاثوليكياً. في عام 1994 حُذف هذا النصّ من الدستور. اليوم يتولّى الرئاسة خافيير ميلاي، وهو مسيحي كاثوليكي، لكنّه قرّر التحوّل إلى اليهوديّة.
ذهب الرئيس الأرجنتيني إلى القدس معتمراً الطاقية الدينية اليهودية وأسند رأسه طويلاً إلى حائط المبكى وهو يجهش بالبكاء، يرافقه حاخام الأرجنتين شيمون أكسل وهنيش.
في شهر نيسان الماضي جرى احتفال ديني في الكنيس اليهودي الرئيسي في فلوريدا بالولايات المتحدة حيث مُنح الرئيس الأرجنتيني لقب “سفير النور”.
لم يعلن الرئيس الأرجنتيني رسمياً عن تحوّله من الكاثوليكية إلى اليهودية، لكنّه يقول إنّه يحرص على حضور الصلاة في الكنيس اليهودي كما يحرص على دراسة التوراة. وتشكّل هذه الظاهرة سابقة في الأرجنتين التي يبلغ عدد سكّانها 46 مليوناً بينهم 171 ألف يهودي فقط.
كيف ينظر البابا إلى ما يحصل؟
قبل اعتلائه السدّة البابوية زرتُ البابا الحالي في مقرّه في الكنيسة الرئيسية في بيونس أيريس عاصمة الأرجنتين، وكان كاردينالاً ورئيس أساقفة بلاده. وهناك عرفتُ أمرين: الأوّل أنّه كان مهتمّاً بالتعرّف على الإسلام، ويحتفظ بنسخة من القرآن الكريم باللغة الإسبانية قام بترجمتها مغترب لبناني من البقاع. أمّا الأمر الثاني فهو أنّه رئيساً لأساقفة بيونس أيريس شكّل لجنة محلّية من ناشطين مسيحيين ويهود ومسلمين بينهم ابن مترجم القرآن للعمل معاً تحت إشرافه من أجل تعزيز العلاقات بين الطوائف الثلاث في الأرجنتين.. وبقيت هذه اللجنة تعمل وتتواصل معه وهو في روما بعد اعتلائه السدّة البابوية. بهذه الخلفية لا بدّ من التساؤل: كيف ينظر البابا الآن إلى تحوّل رئيس بلاده من الكاثوليكية إلى اليهودية؟
في الأساس كانت الكنيسة الكاثوليكية تدين اليهود جميعاً بجريمة صلب السيّد المسيح. ولكنّ المجمّع الفاتيكاني الثاني (1965) اقتصر الإدانة على مرتكبي الجريمة وليس على اليهود عامة. أدّى ذلك إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين اليهود والكنيسة الكاثوليكية. وهي صفحة يتجاوزها اليوم الرئيس الأرجنتيني بافتراءاته الأكذب على موقف الدين (كلّ دين) من جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
في الأساس لا يعرف تاريخ الرؤساء في العالم رئيساً تحوّل عن دينه وهو في سدّة الرئاسة. وما قام ويقوم به الرئيس الأرجنتيني يشكّل سابقة مثيرة، وذلك في ضوء توسّع انتشار الكنائس الإنجيلية الأميركية في دول أميركا الجنوبية التي تعتبر خزّان الكاثوليكية في العالم. وقد حدث ذلك فعلاً في البرازيل، إذ تحوّل رئيسها السابق بولسوانو إلى الإنجيلية الصهيونية وجرى تعميده مسيحياً في مياه نهر الأردن على يد قساوسة من الحركة.
الرئيس الأرجنتيني مرجعيته موسى (النبي)
في مقابلة أجرتها معه صحيفة ناسيون (الوطن) الأرجنتينية قال الرئيس الأرجنتيني إنّ “مرجعي الأوّل والأخير هو موسى (النبي)”. وقد التقطت الصحف له ولشقيقته كارينا صوراً وهما باللباس الديني اليهودي مع قبعة الرأس مطرّزاً عليها عبارة: “قوّات السماء”. ويقول إنّ الحسم في القتال لا يتوقّف على عدد المقاتلين وأسلحتهم، لكنّه يتوقّف على “قوات السماء” التي تقف إلى جانبهم. وهي عبارة مأخوذة من الجزء الثالث من الكتاب الديني اليهودي “ماكابي”، وهو من الكتب الدينية اليهودية، لكنّه لا يوصف بأنّه من الكتب المنزّلة أو الموحى بها من الله. وللإعراب عن عمق مشاعره اليهودية وصف وباء كوفيد 19 عندما انتشر في الأرجنتين، كما في دول العالم المختلفة، بأنّه مثل النجمة الصفراء التي فرض النظام النازي على اليهود تعليقها على صدرهم لتمييزهم عن سائر الناس.
لتعزيز وتثبيت انتمائه الجديد لليهودية حمل الرئيس الأرجنتيني على البابا فرنسيس ووجّه إليه كلمات نابية على الرغم من أنّ البابا يتمتّع في بلاده (وفي العالم) بسمعة القدّيسين الأطهار. ومن أسوأ ما وصفه به أنّه “يساري ابن زانية”. مع ذلك لا يزال يقول عن نفسه إنّه كاثوليكي “ولكنّني أمارس اليهودية أيضاً”!!
يعمل الرئيس الأرجنتيني على دعم إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنّها على قطاع غزة والتي أدانتها محكمة العدل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة، ليس لأسباب أو لمصالح سياسية أو اقتصادية، بل لأسباب دينية حصراً. ولهذه الأسباب أيضاً أعلن نيّته نقل سفارة الأرجنتين إلى القدس (كما فعلت الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب وبقرار منه). ويعتبر الرئيس الأرجنتيني من أقرب رؤساء دول أميركا الجنوبية إلى الولايات المتحدة ومن أكثرهم تماهياً مع سياستها، وخاصة في الشرق الأوسط.
عقلاء اليهود في الأرجنتين يخشون من ردّة فعل سلبية يدفعون ثمنها غالياً جداً. ولذلك تشكّلت فرقة منهم تقول إنّ الرئيس خافير ميلاي “لا يمثّلنا”. وبذلك يقطعون الطريق على قيام حركة محلّية معادية لهم تنطلق من الدفاع عن المسيحية الكاثوليكية.. وتضع اليهود والكاثوليكية في صراع جديد.
يعرف البابا فرنسيس كلّ التفاصيل، لكنّه لا يعلّق عليها. وهو لم يعلّق حتى على الرئيس الأرجنتيني نفسه عندما افترى عليه كذباً ووصفه بما ليس فيه.
في عام 1994 انفجرت قنبلة في المركز اليهودي في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيريس. أدّى الانفجار إلى مقتل 85 شخصاً وإصابة 300 آخرين بجروح. في ذلك الوقت لم تكن الرئاسة في الأرجنتين مرتمية في أحضان إسرائيل (دينياً) والولايات المتحدة (سياسياً) كما هي اليوم.. الله يستر!!
محمد السماك