بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
لا شيء يوحي بأنّ خطّة الرئيس الأميركي جو بايدن، المعدّلة عن خطة إسرائيلية سابقة، تحظى بفرصة معالجة حرب غزة، دعك عن إيجاد الحلول المستدامة للصراع الطويل بين إسرائيل والفلسطينيين.
الخطّة المكوّنة من ثلاث مراحل، والتي تبدو في الظاهر خطّة تفصيلية، تنطوي على الكثير من الثغرات، لا سيما بشأن السقوف الزمنية لكلّ مرحلة، ومصير وقف إطلاق النار في خلالها. كما أنّها لا تعالج بشكل واقعي مسألة الحاكمية في القطاع وهويّة من سيتولّى إدارة غزة خلال التفاوض وبعده.
يريد بايدن وقفاً لإطلاق النار لمدّة 6 أسابيع في المرحلة الأولى، يتخلّلها انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في القطاع، وإطلاق سراح عدد من الرهائن، بمن فيهم النساء والشيوخ والجرحى، في مقابل الإفراج عن المئات من السجناء الفلسطينيين.
تشمل المرحلة الأولى عودة المدنيين الفلسطينيين إلى منازلهم وأحيائهم في كلّ مناطق غزة، بما في ذلك الشمال، بالتوازي مع رفع كميّة المساعدات الإنسانية إلى 660 شاحنة يومياً.
أمّا أهمّ ما في المرحلة الأولى فهو تفاوض إسرائيل وحماس في خلال الأسابيع الستّة على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية، التي تشتمل على وقف نهائي للأعمال العدائية.
هنا أضاف البيت الأبيض عبارة من خارج المقترح الإسرائيلي تفيد بأنّه “في حال استغرقت المفاوضات فترة أطول من ستّة أسابيع، سيتواصل وقف إطلاق النار ما دامت المفاوضات مستمرّة”.
من يضمن أن لا تلجأ حماس إلى إطالة أمد المفاوضات إلى أجل غير مسمّى بغية الحفاظ على وقف إطلاق النار من دون تقديم تنازلات جوهرية، تمهّد لإطلاق المرحلة الثانية التي يفترض أن تشتمل على “مفاوضات للتوصّل إلى نهاية دائمة للأعمال العدائية” بين الطرفين؟!
حماس والتقاط الأنفاس
يمنح مثل هذا السيناريو حماس فرصة التقاط أنفاسها ووقتاً كافياً لإعادة تجميع ما تيسّر من صفوفها وترميم جزئي لبنية القيادة وجهاز التحكّم والسيطرة. وفي المقابل، توضع الأهداف الاستراتيجية لحكومة نتنياهو في الثلّاجة، مع خطر تعرّض ائتلافه الحكومي للانهيار.
وما يزيد الأمر تعقيداً، النظر من قبل نتنياهو وحلفائه، إلى بايدن على أنّه يستخدم وقف إطلاق النار لشراء الوقت حتى يتمكّن من التفرّغ لحملته الانتخابية، من دون امتلاكه في الواقع لأوراق قوّة فعليّة تمنع خطّته من أن تتحوّل إلى نصر لحماس.
وعليه، إن كان الحذر الشديد والريبة الهائلة من جدوى الحلول السياسية هما الصفتان الأبرزان في سجلّ نتنياهو التاريخي، فإنّه في ضوء تفاصيل الصفقة قد يكون أكثر ميلاً نحو رفضها، مغامراً بمزيد من تردّي العلاقة مع واشنطن.
يعرف نتنياهو أنّ الفوائد المحتملة لإسرائيل جرّاء قبول الخطة، كخفض الإدانات الدولية، ووقف تدهور صورة إسرائيل نتيجة ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، هي فوائد غير مؤكّدة أوّلاً وغير كافية ثانياً لتقديمها كانتصار للرأي العامّ، حتى ولو أُفرج عن كلّ الرهائن. لقد ذهب نتنياهو بعيداً في استعداده لدفع فاتورة الوحشية في الحرب، وذهب أبعد في رفع سقوف التوقّعات بشأن تدمير حماس لمعالجة فشل استراتيجيّته السابقة كما ظهر يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
كما أنّ معالجة أزمة الرهائن وإن أدّى إلى تخفيف الضغط الداخلي على الحكومة الإسرائيلية، فإنّه لا يبدّد الحاجة إلى حلّ أشمل يعيد الحياة إلى طبيعتها للمواطنين الإسرائيليين الذين يعيشون تحت تهديد الهجمات الصاروخية في شمال إسرائيل على الحدود اللبنانية وفي بلدات غلاف غزة. من الصعب تخيّل أن يلجأ نتنياهو إلى معالجة ملفّ يهمّ أهالي الرهائن إن كان هذا الحلّ سيدخله في اشتباك مع بيئة أوسع تطالب هي الأخرى بحلول جذرية ومستدامة لأمنها واستقرارها.
المخاطرة الإسرائيليّة
وربّما المخاطرة الكبرى لإسرائيل تكمن في أن يُنظر إلى موافقتها على وقف إطلاق النار الوارد في الخطّة على أنّها تضفي الشرعية على حماس، وهو ما يقوّي موقف الأخيرة ويشجّعها، هي والحزب، على المزيد من الهجمات مستقبلاً.
لو نحّينا جانباً المعارضة القويّة داخل ائتلاف نتنياهو لأيّ وقف لإطلاق النار، في غياب نصر حاسم، ولو تجاوزنا للحظة الحسابات الانتهازية لأطراف الائتلاف بشأن الحرب ودورها في خدمة استمراريّتهم في الحكم، فسنجد أنّ جزءاً كبيراً من الجمهور الإسرائيلي والنخبة السياسية باتوا يرون في حماس والحزب تهديداً وجودياً يجب تحييده بالكامل.
أمّا عربياً، وعلى الرغم من المواقف المرحّبة بخطة بايدن، والحاجة السياسية والإنسانية إلى وقف الحرب، فإنّ أحداً في العواصم المعنيّة لا يملك ضمانات بشأن أن لا تمهّد الخطة لهدنة ما، طالت أو قصرت، تسمح لحماس وحلفائها بإعادة تجميع صفوفهم والتسلّح من جديد، واستئناف الصراع مرّة أخرى.
فإذا كانت المرحلة الثالثة من خطة بايدن تنصّ على “تنفيذ خطة شاملة لإعادة إعمار غزة، تهدف إلى إعادة بناء المنطقة المدمّرة”، فمن سيغامر برصد عشرات المليارات لتحقيق ذلك من دون تغيير المعادلة السياسية الفلسطينية أوّلاً، والاتفاق على مسار عاقل وموضوعي وجادّ للسلام الدائم ثانياً.
الفوائد الإنسانية والدبلوماسية لخطة بايدن لا جدال فيها. كما أنّ القبول بها قد يؤدّي إلى استعادة شيء من الاستقرار الجيوسياسي أبعد من غزة، لا سيما في البحرين الأحمر والمتوسّط. بيد أنّ افتقارها إلى بنود قادرة على تغيير المعادلة جذرياً على الأرض، سيجعل من رفضها موقفاً ضرورياً للحفاظ على الأمن والردع الطويل الأمد.
إنّ أقصى ما يمكن القبول به إسرائيلياً هو وقف مشروط لإطلاق النار مع البقاء في غزة، وتوفير حدّ أدنى من المناخ السياسي الذي يسمح للدول العربية وواشنطن بإعادة هيكلة خطة بايدن لتضمن معالجة المخاوف الأمنيّة الطويلة الأمد لإسرائيل والمنطقة، بالتوازي مع تحقيق حدّ معقول من الفوائد الإنسانية والدبلوماسية الفورية.
في هذا السياق، برز موقف للإمارات عبّر عنه وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد، قال فيه إنّ “مقترحات بايدن بنّاءة وواقعية وقابلة للتطبيق، وما على الجانبين إلا اغتنامها. فهي فرصة سانحة لوقف الحرب ومنع وقوع المزيد من الخسائر في الأرواح ووقف التصعيد وإطلاق سراح الأسرى والرهائن والتخفيف من الوضع الكارثي والخطير الذي يعيشه المدنيون في غزة.
لا حلّ شاملاً إلا من خلال السلام والمفاوضات وفقاً لحلّ الدولتين”.
نحتاج إلى الكثير من الابتكار السياسي والدبلوماسي بغية تحويل خطة بايدن إلى خطوة على طريق السلام وفق حلّ الدولتين، ومنعها من التحوّل إلى انتصار لحماس وحلفائها من الضاحية إلى طهران.
نديم قطيش