بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أنّ الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مغامرة غير محسوبة العواقب، خاضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من دون أن يقدّم تفسيراً مقنعاً لها. والآن، بعد انجلاء نتائج الجولة الأولى، يمكن الحديث عن خريف مبكر لـ”الماكرونية” في الاقتصاد والسياسة.
كان عنوان الماكرونية، حين قفز ذلك الشابّ إلى صدارة المشهد السياسي عام 2017: “فعل كلّ ما هو ممكن لعدم إبقاء أيّ سبب للتصويت للمتطرّفين”.
بعد سبع سنوات، انكمشت كتلته في البرلمان إلى أقلّ من النصف (من 250 مقعداً إلى ما بين 70 و100 مقعد وفق استطلاعات “إبسوس”)، فيما اتّسعت مساحة المتطرّفين من الطرفين. فإلى أقصى اليمين كتلة تعادي المهاجرين وتتشكّك في جدوى الاندماج في المؤسّسات الأوروبية والناتو، وحتى في التحالف المفرط مع الولايات المتحدة. وفي المقلب الآخر كتلة مقابلة، فيها الكثير من المهاجرين والمتحدّرين من المهاجرين أو المتعاطفين معهم.
مراجعة الدّستور… لمنع حكم المتطرّفين
بات على فريق ماكرون أن يراجع الدستور جيّداً للتمكّن من حدود ما يمنحه من صلاحيّات، حتى ولو تمكّن، في أحسن الأحوال، من تشكيل ائتلاف عريض مع يسار الوسط والجمهوريين الديغوليّين للحؤول دون تمكين حزب جان مارين لوين، “التجمّع الوطني”، من مقاسمته الحكم.
في الحالين سيكون موقف موقع ماكرون ضعيفاً في البرلمان، وسيحتاج إلى مساومات كثيرة لتمرير التشريعات التي تعكس مشروعه، أو عرقلة المشاريع المناوئة. يكفي أنّ حكومة حزب ماكرون واجهت 28 تصويتاً بعدم الثقة منذ إعادة انتخابه في 2022، وهو الذي كان لديه أقلّ بقليل من نصف البرلمان. فكيف سيكون الحال حين يصبح لديه أقلّ من 100 مقعد؟!
ماذا أرادت “الماكرونيّة” وأين فشلت؟
لا يخفي ماكرون إعجابه المطلق بالنموذج الأميركي. فهو يكرّر الإشارة إلى تخلّف بلاده عن الولايات المتحدة في نموّ معدّل دخل الفرد (حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي) على مدى العقود الماضية. ويترجم ذلك إلى ضعف الإنتاجية المتوارث في فرنسا، في مقابل النموذج الاقتصادي الأميركي الذي يحفّز الابتكار وريادة الأعمال.
تلك مقولة شائعة عن فرنسا يردّدها الاقتصاديون الليبراليون، ويعزونها إلى التقاليد الاشتراكية المتجذّرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ومن مظاهرها أنّ فرنسا هي الثانية أوروبياً، بعد فنلندا، من حيث تكاليف الرعاية الاجتماعية، بالنسبة إلى حجم الاقتصاد. وقد بلغت هذه النسبة الذروة عام 2014 عند 24.5%، بحسب بيانات النقد الدولي، ولم تنخفض إلّا بنقطة مئوية واحدة في السنوات التالية. لكنّها ما زالت أعلى بأكثر من خمس نقاط مئوية من الدول المقاربة لها في الحجم. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الإنفاق الحكومي السخيّ على التعليم والصحّة، والأمن الوظيفي المفرط للموظّفين في القطاعين العامّ والخاصّ، ولمزايا الوظيفة عموماً، من ساعات عملٍ منخفضة وتعويضات بطالة مرتفعة، وسنّ تقاعد لا مثيل له في الاقتصادات المتقدّمة.
ولأنّها دولة راعية، فإنّ التأمينات الاجتماعية يقع ثقلها على كاهل الدولة، لا على شركات التأمين وصناديق التقاعد الخاصة، كما في الدول الليبرالية. وأدّى ذلك إلى تفاقم عجز الميزانية، ليصل إلى 5.4% في العام الحالي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فيما قفز الدين العامّ إلى 111% من الناتج المحلّي، لتصبح فرنسا ثالث أكثر الدول مديونية في أوروبا بعد اليونان وإيطاليا. ولم تفلح كلّ محاولات ماكرون لضبط العجز تحت سقف الـ 3% من الناتج المحلّي، الذي كان يطمح إليه في السنوات الأولى من حكمه، من دون إغفال الأثر الكبير لجائحة كورونا في انفجار نفقات الرعاية الحكومية الاستثنائية.
حاول ماكرون… وفشل
لكنّ ماكرون هزّ النموذج الرعائي الفرنسي على أيّ حال، بمناداته العلنية بتقليص الحمايات للموظّفين، والحدّ من قوّة النقابات والاتّحادات العمّالية. واستخدم كلّ ثقله لرفع سنّ التقاعد على مرحلتين من 60 إلى 64 عاماً، وتغيير معادلة احتساب المعاشات التقاعدية بحيث أصبحت تساوي معدّل أفضل 25 سنة عمل، عوضاً أن تكون عند معدّل أفضل عشر سنوات. وخفض إعانات البطالة بشكل كبير، في إصلاح أُقرّ عام 2019.
أراد ماكرون بوضوح قيادة فرنسا إلى نموذج أكثر ليبرالية، ويخاطب كبرياء الفرنسيين بأنّ بلاهم لن تسدّ فجوة النموّ مع الاقتصادات الكبرى ما لم ترفع الإنتاجية وتقلّص الحمايات للموظّفين على نحوٍ يشجّع أرباب العمل على التوسّع في التوظيف، ويشجّع الشباب على ترك الوظيفة والمغامرة ببدء أعمالهم الخاصة، لتكون لفرنسا شركاتها الناشئة الشبيهة بشركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة التي أنشأها طلاب جامعيون في كاراجات منازلهم.
بدا من نتائج انتخابات الأحد أنّ للفرنسيين أولويّات أخرى تتنازعها الهموم المعيشية اليومية وأسئلة الهويّة.
خلاف على السّياسات الضّريبيّة
يتقاطع أقصى اليمين مع اليسار عند رفض السياسات الليبرالية لماكرون. فكلا التحالفين يعلنان اعتزامهما خفض سنّ التقاعد (حزب لوبن يتعهّد بخفضه إلى 62 عاماً، فيما يتعهّد اليساريون بخفضه إلى 60 عاماً). ويتعهّد أقصى اليمين بسياسات رعائية أخرى، منها خفض الضريبة على القيمة المضافة، على الوقود والكهرباء، من 20% إلى 5.5%. كما ينادي بخفض كبير لمساهمة فرنسا في ميزانية الاتّحاد الأوروبي. وأمّا اليسار فينادي بسياسة فرض الضرائب المفرطة على الأثرياء وزيادة التقديمات لمحدودي الدخل.
أحد هذين الفريقين سيدخل الحكم، إمّا بائتلاف مع ماكرون، وإمّا باقتسام صعب للسلطة في حال فاز أقصى اليمين بالأغلبية المطلقة (289 مقعداً) في الجولة الثانية الأحد المقبل.
في الحالين، سيتخلّى ماكرون عن جزء كبير من أجندته الليبرالية ومن أحلام القيادة الأوروبية والدور الكبير في حلف الناتو، لينصرف إلى لعبة المزايدة الشعبية الداخلية من الآن حتى الاستحقاق الرئاسي المقبل عام 2027. في موعد ذلك الاستحقاق لن يكون ماكرون قد بلغ سنّ الخمسين، لكنّ “الماكرونية” تدخل من اليوم في خريف مبكر، ولن يكون من السهل تجديد شبابها.
عبادة اللدن