بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
خرج يحيى السنوار من السجن الإسرائيلي بفعل صفقة قادها بنفسه من داخل زنزانته. الرجل لم يكن يفكر في حينه فقط بتفاصيل الصفقة، فهو المطلع على العقل الإسرائيلي. هي صفقة ستتم وتمّت. لقد كان يفكر في “اليوم التالي” لخروجه من هناك. كان عقله في غزة ناظراً إلى التناحر بين القيادات فوق الأرض، وإلى ما يمكن أن يستفيد منه تحت الأرض. خرج ذاك الرجل النحيل حادّ الملامح كـ”البلدوزر” ليجتاح كل شيء من أجل شيء واحد، هو أن يكون سيّد غزة الأول.
في الحلقة الثانية والأخيرة حكاية يحيى السنوار مع “طوفان الأقصى”. كيف خطّط لحرب فوق الأرض ليخوضها تحتها؟
الرّجل الثّعلب
لدى تولّيه سلطة “حماس” في غزة قدّم السنوار وجهة نظر خاصة لأيديولوجية الحركة. مع إصراره على المقاومة واعتباره إسرائيل كياناً يهودياً أجنبياً على أرض موروثة للإسلام، ألمح مراراً إلى الحلول الوسط. قال مرّة لصحافية إيطالية تدعى فرانشيسكا بوري زارت غزة إنّ “الحرب ليست في مصلحة أحد. بالتأكيد، ليس في بلدنا من يرغب في مواجهة قوّة نووية بمقلاع؟”. وأضاف: “نحن لسنا فقط أطفالاً حفاة القدمين. يمكننا أن نكون مثل سنغافورة، مثل دبي. ودعونا نجعل الوقت يعمل من أجلنا، يشفي جروحنا”. وقال أيضاً إنّ اليهود كانوا ذات مرّة “أشخاصاً مثل فرويد وأينشتاين وكافكا، خبراء في الرياضيات والفلسفة. الآن هم خبراء في الطائرات بدون طيّار والإعدام خارج نطاق القضاء.”
عندما طلبت بوري منه مقارنة حياته في السجن بحياته كزعيم في غزة، قال: “لقد غيّرت السجون فقط. وعلى الرغم من ذلك، كان القديم أفضل بكثير من الحالي. كان لديّ ماء وكهرباء. كان لديّ الكثير من الكتب. غزة أكثر صرامة بكثير.”
في السنوات التي تلت ذلك، وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما يعرف الآن باسم “المفهوم”، وهو مجموعة من التكتيكات التي تهدف إلى احتواء “حماس” مع إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وخنق أيّ حديث عن حلّ الدولتين. سمح لقطر بإرسال مليارات الدولارات إلى غزة، من أجل المشاريع المدنية وإدارة السلطة، مع أنّه كان يعلم أنّ السنوار كان يوجّه الكثير من الأموال لشراء الأسلحة وتوسيع “مترو أنفاق غزة”، والمخابئ.
لاحظت “النيويوركر” في تحقيق مسهب لها عن القائد الحمساوي أنّه مع مرور الوقت فقدَ السنوار وبقيّة قادة “حماس” الثقة بإمكان تحقيق تقدّم مع إسرائيل. صارت الدولة العبرية في عهد نتنياهو وقحة وأكثر ازدراء بالمصالح الفلسطينية، وصارت أكثر إصراراً على سحق القطاع وضمّ الضفة الغربية. وبدأ خطاب السنوار يصير أكثر حدّة وتشدّداً. حذّر الإسرائيليين من ارتكاب “أخطاء غبيّة”، وقال: “سنسحق تل أبيب”. وأكّد أنّ “السيناريو موجود، وقد اكتملت البروفة. ستنفجر غزة بكامل قوّة مقاومتها، وستنفجر الضفة الغربية بكلّ قوّتها. سيهاجم شعبنا جميع المستوطنات في وقت واحد”. وتحدّث عن إرسال “عشرة آلاف من الباحثين عن الشهادة” إلى قلب إسرائيل إذا تعرّض المسجد الأقصى للانتهاك.
كتب يانيف كوبوفيتش في صحيفة “هآرتس” أنّ السنوار بعد 2021 استغنى عن “البراغماتية السابقة” و”التواضع النسبي” لمصلحة التكتيكات العسكرية الأكثر جرأة، وصار أكثر حضوراً ووضوحاً في الشوارع، وصار أشبه بشخصية أسطورية تُنسج حولها الحكايات والبطولات. وراح يقول إنّ أكبر هديّة يمكن أن تقدّمها له إسرائيل هي جعله شهيداً. وصرّح مرّة: “سأغادر الآن بالسيّارة، متّجهاً إلى المنزل (…) إنّهم يعرفون أين أعيش. أنا في انتظارهم.”
مؤتمر فندق الكومودور؟
خطابات “حماس” واجتماعاتها العامة قبل 7 أكتوبر كانت إشارة واضحة لإسرائيل إلى ما سيأتي في يوم الطوفان. لكنّ الغرور غلبها. في 30 أيلول 2021، عُقد في فندق “كومودور” في مدينة غزة مؤتمر بعنوان “وعد الآخرة: فلسطين ما بعد التحرير”. كان الغرض من المناقشات، وفقاً لروايات “هآرتس” ومعهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط، هو الاستعداد لمرحلة ما بعد التحرير وزوال دولة إسرائيل. ذكّر المحاضرون في المؤتمر بفتح الخليفة عمر للقدس في القرن السابع، وبهزيمة صلاح الدين للصليبيين واستعادة بيت المقدس في القرن الثاني عشر. لم يحضر السنوار المؤتمر، لكنّ ممثّله قال إنّ “النصر قريب”.
في المؤتمر نفسه جمعت “حماس” بنكاً للأهداف الإسرائيلية يشمل المؤسّسات التعليمية ومحطّات الطاقة وأنظمة الصرف الصحّي ومحطّات الغاز، التي تنوي السيطرة عليها. توعّدت بتغيير الشيكل إلى الذهب أو الدولار أو الدينار. فرزت الخطط نيّات الحركة تجاه المحتلّين الإسرائيليين، وحدّدت من سيحاكم ويدان، ومن سيسمح له بالمغادرة أو الاندماج في الدولة الجديدة. كان المندوبون مهتمّين خصوصاً بـ”منع هجرة الأدمغة” من “اليهود المتعلّمين والخبراء في مجالات الطبّ والهندسة والتكنولوجيا والصناعة المدنية والعسكرية”: “لا ينبغي السماح لهؤلاء الناس بالمغادرة وأخذهم المعرفة والخبرة التي اكتسبوها أثناء العيش في أرضنا والاستمتاع بفضلها، بينما دفعنا ثمن كلّ هذا في الإذلال والفقر والمرض والحرمان والقتل والاعتقالات”.
ذهبت إسرائيل للنوم في 6 تشرين الأوّل معتقدة أنّ في غزة قطّة نائمة. استيقظت في صباح اليوم التالي فقط لتجد نمراً يتربّص بها هناك. في الساعة 6:43 صباحاً من يوم 7 أكتوبر، أرسل قائد فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي العميد آفي روزنفيلد برقيّة عسكرية عاجلة: “لقد غزا الفلسطينيون”.
كان هجوماً فلسطينياً فاق الخيال، بتوقيع يحيى السنوار ومحمد الضيف. لم يكن للسياسيين الآخرين في الحركة أيّ أثر في التفاصيل. إنجازعسكري سيدرّس في كبرى الكلّيات الحربية. لم يصدّق أحد أنّ رهطاً من المسلّحين تحت الحصار لمدّة 17 عاماً قادر على فعل ما فعل وخطف هذا العدد الهائل من الإسرائيليين.
كتبت “النيويوركر”: لقد عكس تخطيط السنوار وعيه الحادّ لإسرائيل وتاريخها. كان يوم الهجوم هو كلّ من السبت و”سيمشات توراه”، وهو آخر العطل في الخريف. كان أيضاً الذكرى السنوية الخمسين لحرب أكتوبر 1973 والسقوط المدوّي لخطّ بارليف. يوم لم تشعر بمثله إسرائيل منذ 75 سنة. يوم كشف وهن الأسطورة الإسرائيلية وهشاشتها. يوم دفع بالإسرائيليين وحكومتهم إلى إطلاق وحشية لم تشهد البشرية مثلها ولا تزال مستمرّة بعد عشرة شهور من إطلاقها.
إسرائيل سوّت مدن القطاع ودساكره بالأرض، لكنّ السنوار يواصل إطلاق رسائله الممهورة بتوقيعه الخاصّ. السجن لم يأخذ السنوار إلى طريق نلسون مانديلا، بل أخذه إلى طريق خاصّ به، طريق جعله الفلسطيني الأخطر على الإطلاق.
أمين قمورية