حصّة طهران “محفوظة” في المطبخ التّركيّ – العراقيّ !

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

نجحت دبلوماسية الأبواب الخلفية بين تركيا والعراق في دفع البلدين نحو توقيع العشرات من الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم السياسي والأمني والاقتصادي. الباقي الآن لا يقلّ أهمّية عمّا أُنجز، وهو الالتزام بالتنفيذ. ما يسبق هذا التنفيذ هو سلسلة من الأسئلة الطارئة التي تحتاج إلى أجوبة شافية.

ما الذي تعنيه مشاركة القيادي في “هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض في الوفد العراقي الرسمي المتوجّه إلى أنقرة للتفاوض حول أكثر من ملفّ سياسي وأمنيّ واقتصادي؟ هل يحضر الفياض ليعلن بذلك أنّه سيكون جزءاً من سياسة الانفتاح التركي العراقي الرسمي الذي انطلق مجدّداً قبل عام؟ أم يعني أنّ طهران نجحت في فرض حصّتها على الجانبين؟ أم الهدف هو الالتفاف على تصريحات ومواقف “الحشد الشعبي” حيال تركيا ووجود قوّاتها في شمال العراق؟ أم هو تمهيد لقبول قوات الحشد شريكاً منتشراً على الحدود بين البلدين على الرغم من علاقته بإيران والسليمانية ومجموعات “قسد”، بعكس ما كانت تردّده القيادات التركية عام 2016 حول “الحشد الشعبي” و”الحشد الوطني”؟ لعبة المفاجآت مستمرّة بين أنقرة وبغداد، فهل يأتي الدور على قيس الخزعلي ليجلس إلى طاولة القرار والتفاهمات التركية العراقية أيضاً؟

العلاقات التركية العراقية أمام تقاطع طريق جديد صعب ومعقّد. هل نجح اللاعب الإيراني في تسجيل اختراق مهمّ وحماية حصّته ونفوذه في مسار العلاقات التركية العراقية، أم هي خطوة براغماتية تركية عراقية كان لا بدّ منها لإنهاء مشروع ربط المربّع الحدودي العراقي التركي الإيراني السوري برغبة طهران في الهيمنة على هذه البقعة الجغرافية الواسعة بالتنسيق مع “قسد” والسليمانية وفي ظلّ التجاهل الأميركي لما يدور؟

الانفتاح التّركيّ على الأذرع الإيرانيّة

قرار واشنطن تدريب مجموعات “قسد” على استخدام منظومة صواريخ الدفاع الجوّي “أفنجر” خطوة استراتيجية وليست تكتيكية ولا علاقة لها بخطط الحرب على داعش. الرسالة أيضاً تعني أنقرة قبل أن تعني طهران. كلّ طرف يراجع حساباته ومواقفه، والتقارب التركي العراقي الأخير الذي سيضيّق الخناق على بقايا حزب العمال ويقطع خطوط الإمداد والتواصل بين القامشلي والسليمانية هو معنيّ أيضاً.

بدأ التحوّل الفعليّ في مواقف وعلاقات أنقرة بالجماعات العراقية المسلّحة المحسوبة على إيران في نهاية شهر آب من العام المنصرم، من خلال لقاء جمع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالأمين العامّ لـ”عصائب أهل الحقّ” قيس الخزعلي. ثمّ تبعت ذلك زيارة السفير التركي في العراق إنال بورا إنان في شهر تموز المنصرم لرئيس “هيئة الحشد الشعبي العراقي” فالح الفياض. وبعدها في آب المنصرم خلال زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للعراق واجتماعه بهادي العامري رئيس “تحالف الفتح”، وتُوّج ذلك بمشاركة الفياض في الوفد العراقي الرسمي الذي زار تركيا واستقبله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وضمّ وزيري الخارجية والدفاع العراقيين ورئيس جهاز الاستخبارات ووزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان العراق.

المسألة أبعد من موضوع مقايضة اقتصادية إنمائية وأمنيّة بين أنقرة وبغداد مثل الحصول على حصّة أكبر من مياه نهرَي دجلة والفرات، مقابل حسم موضوع التحكيم الدولي والتعويضات التي تريدها بغداد والمصحوبة بفتح طريق تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي المغلق منذ آذار 2023. زيادة كمّية ضخّ المياه إلى العراق مهمّة طبعاً، لكنّ المهمّ كان أيضاً اتفاقيات توسيع رقعة التعاون العلمي والتقني في الاستفادة من كمّيات المياه وحبسها وتوزيعها. المسألة مرتبطة أيضاً بالتحوّلات الإقليمية والاصطفافات الجديدة المحتملة ومصالح البلدين الاقتصادية في خطط تفعيل الممرّ العراقي التجاري.

المهمّ كذلك هو التحوّل الحاصل في التعامل مع ملفّ حزب العمّال في شمال العراق. من مجموعات دفعتها أنقرة باتّجاه الأراضي العراقية كما يردّد البعض في الداخل العراقي، إلى مجموعات محظورة، ثمّ مجموعات تشكّل خطراً على الأمن القومي العراقي وتهدّد أمن دولة جارة. هكذا تطوّرت الأمور وتبدّلت المواقف لتصل إلى قرار إنشاء غرفة عمليات عسكرية وأمنيّة تركية عراقية مشتركة لمحاربة عناصر حزب العمال في شمال العراق.

إشراف وزيري الخارجية التركي والعراقي اليوم على خطط تفعيل دور “مجموعة التخطيط التركية-العراقية”، إلى جانب وضع اللمسات الأخيرة على “غرفة العمليات العسكرية والأمنيّة المشتركة” التي سيكون مقرّها في العراق ويشارك الضبّاط الأتراك في اجتماعاتها، يعنيان الكثير بالنسبة للطرفين بالمقارنة مع ما كان يدور ويقال قبل عامين مثلاً.

ما بين تل أبيب وطهران

هدف أنقرة التالي في العراق بعد الوصول إلى عشرات الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم في الأشهر الأخيرة هو حسم موضوع خطوط التنقّل الحدودي بين شرق الفرات وشمال العراق الذي تشرف عليه مجموعات “قسد” والسليمانية بغطاء إيراني – أميركي. فالتسهيلات المقدّمة لكوادر وعناصر حزب العمال عبر هذه الخطوط تعني أنّ التفاهمات بين أنقرة وبغداد لا قيمة لها ما دامت خطوط دعم خلفيّ واسع من هذا النوع تهدّد خطط تحسين العلاقات بين البلدين. اللافت هنا هو أنّ أنقرة لا تفاوض واشنطن على ذلك بل بغداد نفسها، وهذا مؤشّر آخر إلى حجم التنسيق والانفتاح بين الطرفين. مشكلة أنقرة لم تعد مع بغداد وأربيل بقدر ما هي مع السليمانية و”حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” وزعيمه بافل طالباني الذي يواصل توسيع رقعة علاقاته بحزب العمال و”قسد”، كما قال أخيراً وزير الدفاع التركي يشار غولر.

يقول الكاتب والأكاديمي التركي الإسلامي يوسف قبلان في آخر كتاباته المنشورة في صحيفة “يني شفق” المقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم: “شهد القرن الماضي في العالم الإسلامي حدثين متزامنين: أوّلاً تمّ تدمير تركيا الإسلامية وإحلال تركيا العلمانية بدلاً منها، وثانياً تمّ القضاء على إيران العلمانية وتمهيد الطريق لإيران الشيعية من خلال الثورة الإسلامية بقيادة الخميني الذي جُلب من باريس بطائرة فرنسية”.

كتابات وتحليلات مشابهة تحذّر من الممارسات الإسرائيلية في الإقليم، لكنّها تحذر أيضاً من سياسات إيران وأهدافها، داعية إلى بناء تحالفات إقليمية جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما تفعله تل أبيب وطهران.

د.سمير صالحة

التعليقات (0)
إضافة تعليق