بقلم محمد بركات
«أساس ميديا»
دمشق – في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية، بعد كلمة ألقاها البيك بالفرنسية أيضاً. وكانت مقاعد المسرح ممتلئة. فركّبت الإدارة شاشة عملاقة في الخارج، وتابعها مئات الطلاب في الداخل والخارج. كان ذلك قبل 19 يوماً من اغتيال رفيق الحريري. وكان البيك في أوج شجاعته السياسية. وطالب يومها بـ”إقفال عنجر”، وبالإفراج عن سمير جعجع، والسماح بعودة العماد ميشال عون، وتطبيق القرار 1559. وحين وصل إلى سيرة والده الشهيد كمال جنبلاط، قال جملة ما زالت تطنّ في أذنيّ: “نُسامح، قال مانديلا، لكن أبداً لن ننسى – On pardonne, disait Mandela, mais on n’oublie pas“.
أمس، بعد 20 عاماً من هذا المشهد، كنت في عداد الإعلاميين الذين رافقوا وليد جنبلاط إلى الشام الحرّة. بعد 14 يوماً من سقوط نظام آل الأسد وهروب بشّار، وريث حافظ الأسد، في 8 كانون الأوّل الجاري. وعلى الطريق، عبرنا عنجر، البلدة الأثرية اللبنانية، ودخلنا معه قصر الشعب، حيث استقبلنا أحمد الشرع (الجولاني سابقاً)، لابساً “كرافات” للمرّة الأولى في حياته. ومن هناك، دعا البيك إلى “التوجّه إلى محكمة دولية لملاحقة نظام الأسد”، بعدما قال الشرع على مسمعه إنّ النظام البائد “قتل كمال جنبلاط ورفيق الحريري وبشير الجميّل…”.
لم ينسَ وليد جنبلاط، وأحسبُ أنّه لم يسامح أيضاً. وبعد 45 عاماً، أخذ بثأره. وسيبدأ رحلة ملاحقة بشّار ونظامه، دوليّاً… هل من لحظة تاريخية أكثر من هذه؟
في النصف الأوّل من القرن الماضي، وُلِد وليد جنبلاط. تحديداً في 1949. كان عمر لبنان 6 سنوات فقط. وكانت خريطة سايكس – بيكو طازجة. المسلمون عادوا تلك الخريطة منذ البداية. اعتبروا أنّها سلختهم عن محيطهم العربي الواسع. والمسيحيون كانوا فرحين بحصولهم على “دولة”، وسط خرائط دول المسلمين من حولهم.
كان سلطان باشا الأطرش، الزعيم الدرزي العروبي، قد أنهى حربه على الفرنسيين التي بدأت في 1920 وتوسّعت في 1925. وعاد الأطرش “بطلاً” إلى دمشق في 1937.
الجديد أنّ “والد جدّ” أحمد الشّرع، قاتل إلى جانب الزعيم الدرزي في “ثورة الزويّة” المنسيّة. وهذه قرابة قتالٍ ودماء، استحضرها الشرع خلال استقباله وليد جنبلاط. وأضاف أنّ أهالي السويداء أيضاً قاتلوا ضدّ عائلة الأسد، إلى جانب الجولاني ورفاقه، بعد 100 عام.
هكذا وضع الشرع لقاءه بجنبلاط في سياق علاقة بدأت في القرن الماضي، بين أجداد الجولاني وأجداد جنبلاط. ومن يعرف جنبلاط يعرف أنّه مولعٌ بالتاريخ، وخبير في الجغرافيا، خصوصاً السياسية. ولأنّ التاريخ له كلمة عليا، كان لا بدّ لجنبلاط أن يكتب بقيّة حكايته مع سوريا، فطلب “بمحاكمة عادلة للذين أجرموا بحقّ الشعب السوري، وأن تبقى بعض المعتقلات متاحف للتاريخ كي لا ينسى الشعب ولا تنسى الأجيال ما قامت به هذه الزمرة من جرائم ضدّ الإنسانية”، وطلب ختاماً أن “نتوجّه إلى المحكمة الدولية كي تتولّى هذا الأمر”. هكذا بدأ جنبلاط حديثه بـ”جئناكم من جبل كمال جنبلاط”، وختم بـ”المحكمة الدولية لمحاسبة هذه الزمرة”. وهكذا يكون قد أقفل الحساب مع عائلة الأسد، ووضعها في عهدة العدالة الدولية، بعدما أخذت العدالة السياسية مجراها بطرد الأسد من قصره، وعودة وليد جنبلاط إليه على رأس وفد كبير، من المشايخ والنواب، يرافقه نجله تيمور، وجيش من الإعلاميين الذين اصطحبهم من بيروت معه.
رجل يحترم سايكس – بيكو
100 عام، ومعظم المسلمين في لبنان، راودتهم أحلام الوحدة العربية أو الإسلامية، في أحزاب عديدة. حتى العلمانيون، من شيوعيين وقوميين سوريين، لم يعترفوا يوماً بحدود سايكس – بيكو التي رسمت خرائط المنطقة. كذلك فعل حكّام سوريا وحتّى مصر، قبل إيران بكثير. ما كانوا يوماً، حتّى قبل عائلة الأسد، يعترفون بالحدود ولا بلبنان. فذهب عبد الناصر إلى ليبيا والجزائر والسودان، وجاء إلى لبنان. وتنازل شكري القوّتلي عن رئاسة سوريا لتوحيدها مع مصر في 1958.
أمّا اليوم ففي خطاب أحمد الشرع عن لبنان والعلاقة معه ما يتجاوز ثقافة الزعماء الطائفيين في لبنان الذين يدعوهم إلى “الخروج من التحاصص الطائفي إلى توزيع الأدوار على الكفاءات”. ويطلب نسيان المرحلة السابقة، ويعترف بأنّ “قادة سوريا كانوا يفرّقون اللبنانيين ليسهل عليهم حكمهم”. ويعِدُ باحترام الحدود.
هكذا بات ما يجمعنا بأحمد الشرع أكثر من إسقاط الأسد والنظرة الواحدة إلى الماضي، منذ سايكس – بيكو. فهو أيضاً كان ابن واحدةٍ من مغامرات الانقلاب على الخرائط. فقد انضمّ إلى “القاعدة” في العراق قبل غزوه، ثمّ عاد في 2011 إلى سوريا، مسقط رأسه، ليصبح جزءاً من “داعش” في 2013، قبل أن يختار إبقاء “جبهة النصرة” موالية لـ”القاعدة” في العام نفسه.
تقلّب في “كراهية” سايكس – بيكو إلى أن بات في 2024 مقتنعاً بضرورة الالتزام بهذه الحدود، وبأنّ هويّته الفرعية، كمسلم سنّي، وكابن الإسلام السياسي العسكري الجهاديّ، هي مدخل إلى “الوطن السوري” وإلى “حماية التنوّع في سوريا”. وهي النصيحة التي أهداها إلى الوفد اللبناني.
مزارع شبعا سوريّة… ولا حقد مع الشّيعة
كان لافتاً في كلام الشرع احتجاجه على “أحداث حصلت قبل 1,400 سنة، يأتون ليثأروا من أهل الشام بسببها”، وسؤاله: “أيُّ عقلٍ هذا وأيُّ منطق؟ وما علاقتنا بهذه الأحداث؟”. واعتبر أنّ سوريا “الحضارة والتاريخ باتت رهينة في أيدي شذّاذ الآفاق والميليشيات الإيرانية”. وخلص إلى أنّ “المجتمع الدولي عجز عن حلّ الأزمة السورية طوال 14 عاماً، ووفّرنا حرباً على الأمّة والإقليم… لأنّ الشعوب لا تستطيع أن تأخذ حقّها إلا بيدها”.
أكّد أنّ “سوريا تقف على مسافة واحدة من الجميع. ولن نقف مع طرف على حساب طرف، مهما كان لدينا من جراح ماضية. ونحترم سيادة لبنان ووحدة أراضيه واستقراره الأمنيّ، ونسعى إلى أن يخرج من التحاصص الطائفي، بالنصح والحبّ والودّ، إلى توزيع الأدوار على الكفاءات…”.
ردّاً على سؤال “أساس” عن إمكانية فتح القيادة السورية الجديدة صفحةً جديدةً مع شيعة لبنان، خصوصاً أنّ جزءاً كبيراً منهم لم يكن موافقاً على المشاركة في قمع الشعب السوري، أجاب الشرع أنّ الاتّجاه هو “للتعاطي مع كلّ المكوّنات اللبنانية بمنطق الدولة، وبالنسبة إلى شيعة لبنان المعارضين أو المؤيّدين، نحن نتكلّم بمنطق الدولة بعيداً من التصنيفات السياسية. وهناك صفحة جديدة مع مكوّنات الشعب اللبناني كافّة، بغضّ النظر عن المرحلة السابقة، لكن شرط عدم التدخّل بالشأن السوري الداخلي”.
لم تمضِ ساعاتٌ على كلام الشرع، حتى خرج مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي بتصريح معاكس تماماً لكلام الشرع الإيجابي. إذ اتّهم الولايات المتحدة بأنّها “تسعى من خلال مخطّطاتها في سوريا إلى نشر الفوضى وإثارة الشغب لفرض هيمنتها على المنطقة”، متوقّعاً أن “تخرج مجموعة من الشرفاء لتغيير الوضع الجديد وإخراج الثوّار من السلطة”.
بعد سؤال عن مزارع شبعا، أجاب الشرع بدبلوماسية كما لو أنّه يريد القول إنّه لا قرار بعد من هذا النوع في سوريا. لكنّ جنبلاط، ردّاً على سؤال، قال بعد خروجه إنّ “مزارع شبعا سوريّة”.
“ربطة”… العنق
في الختام، إشارة إلى ربطة العنق التي استقبلنا أحمد الشرع بها. أوّل صورة له بربطة عنق كانت مع وفد لبناني. ولم تغِب ربطة العنق عن حديثه، فبدا رجل دولة حقيقياً، لغته دبلوماسية لا تشبه زيّه العسكري الذي خلعه قبل أسبوعٍ فقط.
قبل الوفد اللبناني استقبل الشرع وفداً سعوديّاً. وبعده استقبل وفداً تركيّاً برئاسة وزير الخارجية هاكان فيدان، الرئيس السابق لجهاز المخابرات التركي، والذي يُقال إنّ بصماته كانت واضحة على زحف قوات الشرع باتّجاه الشام.
في اليوم نفسه، أُعلن عن لقاء جمعه بفاروق الشرع، النائب السابق للرئيس السوري المخلوع، والذي أبعده الأسد عن المشهد السياسي منذ سنوات، وأُعلن أنّ أحمد دعا فاروقاً إلى حوار وطنيّ سوري.
هذه القدرة الهائلة على الانتقال من “ثوب” العسكري إلى ثوب “السياسي”، في أسبوع واحد، ربّما تهوّن على عقولنا فهم كيف استطاع هذا الرجل أن يغوي دولاً كثيرة ويستدرجها إلى مطبخ “هيئة تحرير الشام”، وأن يقنع دولاً كبرى يحكمها عباقرة في السياسة بأن تساعده على إخراج بشّار الأسد من سوريا، ليجلس مكانه في قصر الشعب، ومعه قلوب السوريين قبل سيوفهم.
قلقُ الأقلّيّة… وعدالةُ الأكثريّة
قبل هذه الزيارة، كان السياسيون اللبنانيون يذهبون إلى هذا القصر مضطرّين مُجبَرين، مضطرّين إلى القبول بحكم الطاغية حتّى لو قتل آباءهم. هكذا زار القصر وليد جنبلاط بعد أربعين والده، وأمين الجميّل بعد أربعين أخيه بشير، وسعد الحريري بعد قتل رفيق الحريري.
لكنّ زيارة وليد جنبلاط لقصر الشعب أنهت هذه المأساة اللبنانية المستمرّة منذ عقود. دخل البيك مرتاحاً القصر الجاثم فوق جبل قاسيون، وترك لشيخ عقل الدروز سامي أبي المنى أن يقول: “قلقُ الأقليّة يحتاجُ إلى عدالة الأكثرية”، ودعا إلى دستور يحترم الخصوصيات الدينية، في دولة المواطنة،في رسالة سلّمها إلى الشّرع خلال اللقاء.
في النهاية، لبنان وطن الأقلّيّات. الدروز أقليّة في المنطقة. والعلويون أقليّة، والمسيحيون أقليّة، والأكراد أقليّة. وها هو زعيم الأكثرية أحمد الشرع يجلس في القصر اليوم، تارةً يلبس البلايزر، وطوراً يلبس ربطة العنق، ويتحدّث عن حماية التنوّع، ويفعل كلّ ما بوسعه، ويحاول أن يطمئن هذه الأقلّيّات، فيستقبلها وينسّق معها ويضحكُ لها.
المحاولة في بدايتها. لكنّنا كنّا أمس في حضرة “رجل دولة”. على ما سمعنا وسمع غيرنا من لسانه، وعلى ما رأينا من حدود لبنان إلى القصر، حيث التنظيم والشوارع النظيفة والأنيقة وغياب المظاهر العسكرية النافرة.
شكيب أرسلان… وابن خلدون
قبل أن يغادر جنبلاط أهدى الشرع كتاب “تاريخ ابن خلدون”، للكاتب الأمير شكيب أرسلان، جدّ وليد جنبلاط لوالدته، وعنوانه الفرعي: “كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر، في أيّام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
يُعتبر الكتاب درساً في كيفية “بناء العصبية” والتحالفات الاجتماعية القويّة لاستدامة السلطة، لأنّ الكتاب في معظمه دراسة حول الأتراك وصعود حكمهم لمناطق العرب. وهو يقول، في جزئه الأخير والأكبر، إنّ بقاء الحكم العربي التابع لتركيا في السلطة مرهون بتوازن القوى الإقليمية، خصوصاً في ظلّ دعم تركيا لنظامه، وإنّ العلاقة بين العرب والترك كانت مليئة بالتوتّرات، حيث كان العرب ينظرون إلى الأتراك في بعض الأحيان كقوّة غازية أو محتلّة، وإنّ التدخّلات العسكرية والإقليمية قد تؤدّي إلى تثبيت السلطة لفترة معينة، لكنّها قد تواجه تحدّيات اجتماعية داخلية تتعلّق بتوزيع السلطة والسيطرة على الموارد، وهو ما قد يؤدّي إلى انهيار النظام إذا لم يتمّ التعامل مع هذه التحدّيات، ونتيجة ضعف الجذور الاجتماعية والاقتصادية، كما كان الحال مع الأتراك في العصر العثماني.
اشتهر ابن خلدون بنظريّته حول “صعود الإمبراطوريّات وانهيارها”. وكان يشير دوماً إلى أهمّية التوازن بين “القوّة العسكرية” و”الإدارة الحكيمة”… هذه رسالة جنبلاط الأخيرة، قبل أن يغادر جبل قاسيون، ويعود إلى جبل لبنان.
محمد بركات