تطويب البطريرك الدويهي حدث تاريخي سيظل محفوراً في ذاكرتنا ووجداننا – 1

بقلم د. ابراهيم العرب

إن تطويب البطريرك اسطفان الدويهي في الصرح البطريركي في بكركي في الثاني من شهر آب يمثل حدثًا تاريخيًا؛ وفي هذه المناسبة الاستثنائية نسلّط الضوء على دور هذا البطريرك المميّز، الريادي في تاريخ الموارنة ولبنان؛فالبطريرك الدويهي لم يكن مجرد رئيس ديني لطائفة، بل كان مؤرخًا وداعمًا للهوية الوطنية، وترك وراءه إرثًا غنيًا بالمؤلفات والمواقف البطولية. وقديسنا وُلد يوم الثاني من آب عام 1630، يوم عيد ميلاد القديس إسطفانوس أول الشهداء، وسُمي على اسمه وأصبح شاهدًا لكلمة الله، وللإيمان بالقيامة.

عمومًا، منذ أربعة عشر عامًا في العام 2010 شهد لبنان تطويب الأخ إسطفان، ومنذ ستة عشر عامًا في العام 2008 شهد لبنان تطويب أبونا يعقوب، واليوم البطريرك الدويهي، الذي كتب كتاب «منارة الأقداس»، سوف يصبح بدوره منارة مشعّة لوطن الرسالة لبنان، الذي تتوجه أنظار العالم إلى أرضه وبقعته في مدخل شرق القداسة.

كما أن قديسنا سوف يحمي هذه الأرض ببركة وادي قنوبين ونسيمات بخوره التي ما انفكت جمراتها توقد فينا حرارة الإيمان، مسلمين ومسيحيين، فمن يتعمق في سيرة هذا البطريرك الكبير يلاحظ أنه لم يذق طعم الراحة نتيجة الحروب الكثيرة والمظالم المتعددة والمتغيرات السياسية التي جرت إبّان توليه مهام البطريركية. وقد كان شعاره الدائم المحافظة على حمل هموم شعبه والدفاع عن مصالحه أمام أعلى المنابر الدينية والسياسية في ذلك الزمان. ولذلك، كان يقيم الدنيا ويقعدها حفاظًا على القطيع الصغير كي لا تُذل كرامة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق وكرامة بني مارون. يجسد البطريرك الدويهي روح الأمانة والوجدان الماروني بفرادة تثير الإعجاب، رابطًا الهوية بالتاريخ. أينما حلّ البطريرك الدويهي بإقاماته وتنقلاته من وادي قنوبين إلى الشوف، مرورًا بدير مار شليطا مقبس في غوسطا الملقب بقنوبين كسروان، كنت تجده يختصر في شخصه تاريخ الموارنة ومصيرهم رغم الطغيان والضيق السائد آنذاك.

تحلّى البطريرك الدويهي بالصبر وتجهيز الأوراق والوثائق، يبحث وينقّب ويكتب مرتكزًا على المراجع العلمية والمكتبات العالمية في مراقد الأودية والأديار. كان يقوم بجولاته الرعائية، يبني ويرمّم ويكرّس الكنائس والأديار، مثل عين ورقة، يرم الشمامسة والكهنة والأساقفة، ويرسل من الطلاب من توسّم بهم خيراً إلى المعهد الحبري الماروني في روما. يظهر التراث الماروني بكتاباته ويقوم بالإصلاحات الليتورجية، ويحرص على مباركة تأسيس ونمو الحياة الرهبانية. يستقبل الأعيان المحليين والإقليميين والموفدين من الغرب، ويراسل الأحبار الأعظمين والملوك والدبلوماسيين، وأصيل في الحفاظ على العلاقات مع العائلات الروحية.

باختصار، شكّل البطريرك عنوان الراعي للصالح العام، الذي يؤمّن لشعبه شروط بقائهم وازدهارهم. كانت مسيرته حافلة بالعلم والقداسة، ففي رصيده أكثر من ثلاثين مؤلفًا توزعت مضامينها بين تاريخ الكنيسة المارونية، والكتب الطقسية والعظات والشروحات الكتابية، وحياة القديسين، والمراسلات العديدة، والتراث الشرقي المتنوع، واللغة العربية وآدابها، والفلسفة وتعليم اللغات. نذكر بعضًا من مؤلفاته مثل تاريخ الأزمنة، والشرح المختصر في أصل الموارنة، وسلسلة بطاركة الطائفة المارونية، وتاريخ المدرسة المارونية في روما، والاحتجاج عن الملة المارونية وأمانتها في وجه من يعاديها، وأطروحته في محاورة لاهوتية، وكتب الشرطونية والرتب والتكريسات والنوافير، ومنارة الأقداس، ومخطوط المتعبد الماروني، ورؤوس الألحان السريانية، وغيرها من المخطوطات غير المنشورة. كما تحتفظ مكتبة المؤرّخ الخوري يوسف أبي صعب بالنسخ الأصلية القديمة المطبوعة لمؤلّفات البطريرك الدويهي، ومن بينها كتاب “ترجمة أبينا المغبوط اسطفانس بطرس الدويهي” للسعيد الذكر المطران بطرس شبلي والمطبوع في مطبعة النهضة – بيروت سنة 1903؛ وقد كتب المؤرّخ أبي صعب بخط يده على الجلد الخارجي لهذا الكتاب تفاصيل قيمة تتعلق بتاريخ البطريرك الدويهي وعائلته ودورهم في المجتمع اللبناني.

تميز البطريرك الدويهي بعلمه وتعليمه، وتوقه إلى القداسة، وكونه رائدًا في الهوى الماروني واللبناني. كان يمثل أبرز وجوه خريجي المعهد الحبري الماروني في روما في القرن السابع عشر. هذا البطريرك السابع والخمسين كان مثالًا للمسيحي التائق إلى القداسة، وكان غاية العلم عنده تبيان الحقيقة والوصول إلى الله، أمينًا للتقليد الماروني الأصيل والروحانية المارونية.

وقد عاش البطريرك حياة الزهد والنسك، وتتبع فلسفة الوجود مع ما يستتبع ذلك من فضائل خلقية وإنسانية. لخّص في شخصه خلاصة الشعب الماروني وطبيعته منذ الطفولة، ولاحقًا اعتلى أعلى مراتب الكنسية وحقق الإنجازات الهامة. كما صار بإيمانه الكبير مثل إبراهيم أباً للمؤمنين، ومثل أيوب البار في صبره ورجائه وثقته بالعناية الإلهية، ومثل يوحنا التلميذ الحبيب في عيشه الفضائل الإنجيلية، ومثالًا للبطريرك النموذجي. تحلّى بالتواضع والصبر والشجاعة وروح التضحية وحب الصلاة وروح الفقر والعفة، على خطى النسّاك والبطاركة الموارنة النسّاك أصحاب القلوب الذهب والعصيّ الخشب، وكان حب الفقراء  من خصاله. منذ استلامه السدة البطريركية، سعى لإيفاء الديون التي كانت على الكرسي البطريركي بسبب الإعانات في الجوع وظلم الحكّام وتقلبات الزمن. يعين المحتاجين، يهدي الضالّين ويدافع عن المظلومين وعن حقوق شعبه. كان بطريرك الصلاة والتقشف ونصير الفقير والضعيف، بطريرك الحب والتضحية، رسولًا قائدًا رائدًا وراعيًا، حكيمًا ووديعًا في قلب لبنان والعالم.

يتبع غداً

د. ابراهيم العرب

التعليقات (0)
إضافة تعليق