بقلم د. باسم عساف
عملية طوفان الأقصى، كيفما تُفسَّر، بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، قد فَضَحت أموراً كثيرةً على كُلِّ الأصعدة في العالَم ككُل، وليس في فلسطين وغزًّة فقط، لأنَّ هذه العملية، لم تأت من معادلاتٍ ديبلوماسيّةٍ أو سياسيَّة، ولم تكن وليدةَ أفكارٍ تعتمِد على المَحاور والدَوائر والسَّرائر، ولم تكُن تعتمد قواعِد اللُّعبة أو الإشتباك، وهي لم تندرِج في عمليات المٌراهنات على اليوم التالي، ولا على تسوياتٍ وإتفاقاتٍ للتموضُع، أو إيجاد الدور اللازم للّعب على مسرحِ خارطة الطريق، وهي بالتالي، لم تكن مطلقاً بالحِسبان في مُخطَّطات رسمِ الحدود، ورسم الدوائر التي تتوزع كانتوناتٍ مذهبيةٍ وطائفيَّةٍ وعنصريّةٍ بالشرق الأوسط الجديد، وتسوياتِ المنطقة على أساسِ التطبيع الجزئي أو الشامل، تحت مسَمَّيات السَّلام العادل والشامل، والأرض مقابل السلام، كما كانت لعبة: (تعا تفرج ياسلام).
بالفعل: فإن ما بعدَ طوفان الأقصى، ليس كما قبلها، لأن لغة العلاقاتِ الدَّولية قد تبدلت، وحتى لغة العلاقات الإقليمية قد تغيَّرت، وأن لغَة الحِوار والمَحاور المحليَّة قد تحوَّرت، وبات الجميع في حِيرةٍ من أمرِهم، بكيفيَّة بناء أسُسٍ جديدةٍ في التعامُل والتبادُل والتخاذُل، إذ أن المستور قد كُشف، وأنَّ كلٍ من هؤلاء قد بانت نواياه وقضاياه وثناياه، وأنَّ كلِّ الوجوه والكلمات والمواقف والتصاريح، التي كانت تأخذ دور الحَملِ الوديع، قد بيَّنت الأنياب والمخالب المستترة، وأنَّ من كان يأخذُ دورَ الغَضنفَر والسبع المَهيب، والعنترة في المواجهة، والصدَّ والرًّدع وكل المفردات العنفوانِيَّة الصَّلبة، قد أزِيل خِدرُها ورُفِع الغِطاء عنها، ليتمخَّض الجبلُ ويُولِّد الفأر ، ويًخلُد في جِحره.
التهويلاتُ والعنتَريَّاتُ والتهدِيداتُ من أيِّ جِهةٍ أتت، لم تكُن سوى سيناريُوهاتٍ قد كُتبَت ووُجدت لإتمام الصفقة الكبرى، في تسوياتٍ لم تحدُث أخيراً، إنما كانت على أشكالِ المُسلسَلات التلفزيونيَّة المُستدامة بحلقاتِ الأحداث، ولكلِّ حدثٍ قضيّةٍ وموضوع، لتصبٌَ جميعُها في غايَةِ المنتِج والمُخرِج الذي يستلِب النفوس، ويجعلها تجاري الأهداف المرحليَّة من كل حلقة، وصولاً إلى الغايةِ الكبرى للتسلِيم والخُنوع بالرُّؤيا، والإتِّجاه المحدَّد سلفاً للمسلسل، مع الربح المعنوي بالسيطرة، والربح المادي بالمتاجرة، وتكون الغايَة الكبرى قد تحققت من كل جوانبها، في إمتلاك السٌُلطة والمال.
تفسير كل هذا، جاء مع عملية طوفان الأقصى، التي أزاحَت السِّتار فجأةً، ليرى الرأي العام العالمِيُّ والمَحليٌُ، كيف كان اللاعبون على مسرح الأحداث، بما يُنظِمون ويُخطٌِطون للأدوار المسرحِيَّة خلف الستار والكواليس، وكيف كانوا يضحكون ويمرحون و في أخذ أدوارهم بين الظالم والمظلوم، وبين القاهِر والمقهُور، وبين الجبَّار والمجبور، وبين مَلك الغابة والحَمل الوديع، وهم يعلمون جيداً، أنَّ كلاً منهم، يحفظ دورَه ليكتمِل المُسلسًل الواحد، الذي يضمُّهم جميعاً في قالبٍ واحدٍ، من العمل والتعامل في الحلقات والفصول والمشاهد،التي تجسِّدُ فكرة المُسلسًل المسرحي، والذي أُريد به أن ينطلي على المُشاهد، حيث يمثل هو الرأي العام العالمي، الذي إنكَشَفت الستارةُ أمامَه فجأةً، وفي غير موعد الإفتتاح، الذي تسبَّبت بها عملية طوفان الأقصى.
هذه المسرحية بعنوان: (القضية الفلسطينيَّة)، التي بدأت فكرتُها من تآمر الصهيونيَّة الدولية، على إقامَةِ الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، والتي إخترعت لها إسم أرضُ الميعاد، وبناءُ الهيكل، وسيادَة مملكَة داوود، ويَهوذا والسَّامرة ، وإسرائيل من الفرات إلى النيل.إلخ، كما إخترعت لها أبطالَ المسرحيَّة من اليهود المُستقدَمِين إلى الأرض المقدَّسة، وأصحاب القداسَة من العربان، الذين نصٌَبوهم على المناصب والمراكز، والتي تخدم أدوار المسرحيَّة المتسلسلة، في جولات السِّلم والحرب، وما يتبعها من إتفاقاتٍ وتسوياتٍ للهدنة أو الإستِنزاف، وتمرِير الوقت، وتسوِيف الأمور في محطات الخيانة والعمالة، حتى تكتمل الفصول والمشاهد، مع نمورٍ من ورق، وأبطالٍ من كرتون، لتُغرِي المشاهدين بلعب أدوار الأبطال الأصيلين، الذين كانوا حقاً من دُعاة الوِحدة، حيث حرَّروا هذه البلاد من المستبدين الظالمين.
ستُلامِس عملية طوفان الأقصى، ورَدُّ الفعل عليها بحرب غزة، مدَّة السٌَنةِ الكامِلة، من الجُنُون والفتُون بعمليات القصف والتدمير، والقتل والتشريد والتهجير، كما التصفيات الفردية، والإبادة الجماعية، التي لم توفِّر الأطفال والنِساء والشيُوخ العزَّل، في المدارس والمساجد والكنائس، ودور الأيتام ومخيَّمات الإيواء، كما لم تترُكْ ولم تتجنب أيٌِ فئةٍ إنسانيّةّ وإعلاميةٍ وخدماتيّةٍ وصحِّيَّة ورسميَّة، إلا وطالتها أيادي الشرُور الحاقِدة بألوانٍ شيطانية جاحِدة، تظهَر بأقوالهِم قبل أفعالهِم، وهم يتشدَّقون بتحرِير العالم من الإرهاب، والقضاء على الإرهابيبن، دونما المسَّ بمحارِقَ الهولوكُست المزعومة، حتى يكتمِل المُسَلسَل الدَّمويّ، وتحقيق الغاية بأيٌَة وسِيلة.
*يتساءَل العدِيد ممن صدَّق مقولاتِ الحرِّيات العامَّة، وحقَّ الشُّعوبِ بتقرير مصِيرها، وشعاراتِ مبادئ حقوقِ الإنسان، والديمُوقراطيَّة لحياةٍ حُرَّةٍ كريمة، كيف سكَت العالَم المسمُّى الحرُّ المتًمدِّن والمتحضِّر للهيمنة الشامِلة على الكُرة الأرضيّة بجميع مقوِّماتها ومعالِمها؟ كيف يساهِم ويساعِد على الحرب الشعواء والعبثية، بكل المبادئ والمُثُل والقِيم و وحتى أبسَطِ ما يكون للعيش بأمن وأمان وسلام؟، وكيف هم يرضَخون لعنجهيّة (نتن يا هو) ولا يضعون له الحدَّ من التمادي بإجرامِه الحربي، الذي يستخدِم به كل الأساليب الشيطانية الماكرة، والغَدر الموصُوف بالقتل الإغتيالي والإستخباراتي، ليطال كلَّ المناطِق والبلادِ المُمانعة بوحدَة السَّاحات، وكأنَّ التصفِيات للقيادات، حقٌّ موصُوفٌ بماركَةٍ مسجلَّةٍ لحكوُمَة إسرائيل فقط، إذ أنّ دعواتِ الرَّد على مستوى الجريمة، يهرَعُ له كل اللاعبين بأدوار السلام المزعوم، لأجل إكتمال المُسلسَل بتسوياتِ التمكِين على الأرض والعرض.
*الفوران الكبير لعمليَّات الإغتيال، والتصرِيحات المُتنوِّعة بوعودِ الرَّدِ المُضاد، على التمَادي بإصطِيادِ القادَة والمسؤولين وتصفيتِهم بإمعَان، وإطلاق شعارِ قواعدَ الإشتِباك، لتنحصِر اللٌّعبة ضمن المسلسَل، ولا تتخطى الخُطوط الحُمر من حربِ السَّاحات المفتُوحة، والردُود المَمنُوحة، وبإنتظار الأجوبة وتمادي الحربِ النفسِيَّة بالتعبِئة والتجييش، لتشهد النفُوس الصٌُعداء، وتمرِير الوقت لمكتَسباتٍ جانبيَّة، تَستخدِم بارومًتر الأحداث بين الثلج والنار و في مفاوضاتٍ معروفةِ النتائج النووية، ولمكتسباتٍ رعوية، تُسدَى لهم كهدِيّة، على إنجاح المسرحية، والتسوية بالمنطقَة العربيَّة، على غرارِ المخططات الصهيونيَّة، التي لا تأبَه لوعودِ الردُود، ولا تتأهَّب لرَدع اليَهود، وتنصرِف عن اليَوم المَوعُود، كترَاجُعِ المُرتْد عن الرَّد.
د. باسم عساف